بلغ الإنتاج السنوي المحلي من الذهب في الصين ذروته في عام 2016 مسجلا 453.5 طن متري، لكنه انخفض في السنوات التالية إلى ما دون 400 طن بعد عام 2020. وربما يكون ذلك سببا إضافيا لزيادة مشتريات الصين من الذهب منذ ذلك الوقت. أسباب أخرى أضافت إلى قوة الطلب على الذهب في الصين منها السماح للبنوك التجارية بالاحتفاظ بالذهب، إضافة الى ارتفاع مستوى المعيشة في الصين الذي ينعكس ايجابيا على صناعة المجوهرات. وقد بلغ الإنتاج المحلي للذهب في العام الماضي 380 طن متري. ونظرا لأن الصين تسعى لمنافسة الولايات المتحدة على المركز الاقتصادي الأول في العالم، فإنه يكون من المهم بالنسبة لها تعزيز قوتها المالية حتى تصبح مكافئا لقوتها الصناعية والتجارية. وتعاني الصين من فجوة واسعة بين قوتها المالية وقوتها الصناعية/التجارية. ومع ان هذه الفجوة تمثل تكرارا تاريخيا لما تعرضت له الولايات المتحدة في منافستها لبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر، حيث ظل الدولار يلهث وراء الاسترليني لعدة عقود حتى خمسينات القرن الماضي، رغم أنها كانت القوة الاقتصادية الأولى في العالم. ولا شك أن الصين تدرك أبعاد هذه الظاهرة، لكنها تعمل على سد هذه الفجوة، وعدم تركها تتسع. وبمقارنة احتياطي الذهب لدى الصين بمثيله في الولايات المتحدة فإننا نجد أنه يتعين عليها أن تقطع طريقا طويلا حتى تستطيع الوصول الى مستوى التعادل مع احتياطي الذهب لدى الولايات المتحدة، وهو الاحتياطي الأكبر في العالم.
وكان الذهب يستخدم حتى الحرب العالمية الأولى لدعم قيمة الدولار ضمن نظام الذهب الكلاسيكي. في ذلك الوقت كانت كمية الاحتياطي لدى الولايات المتحدة أقل من 3 آلاف طن. لكن الوضع تغير كثيرا خلال فترة ما بعد الحربين، وهي الفترة التي سجلت صعودا سريعا وقويا للاقتصاد الأمريكي، الذي كان بالفعل أكبر اقتصاد في العالم من حيث الحجم في نهاية القرن الثامن عشر. خلال تلك الفترة تدفقت كميات كبيرة من الذهب إلى الولايات المتحدة بسبب دورها كدولة دائنة للحلفاء، وبحلول عام 1930، كان لدى أمريكا أكبر مخزون ذهب في العالم، تزيد كميته عن 8 آلاف طن أي ما يقرب من ثلاثة أمثال ما كان عليه قبل الحرب العالمية الأولى. و شهدت فترة ما بين الحربين تشريعات جديدة مهمة لتنظيم حيازة وتجارة الذهب. فقد أصدر الرئيس فرانكلين روزفلت أمرا رئاسيا (1933) أنهى قابلية تحويل الدولار إلى ذهب داخليا، كما صادر الذهب من الأفراد والبنوك. ثم أصدر “قانون الاحتياطي الذهبي”، وتم تثبيت سعر الأونصة عند 35 دولارًا، فارتفع الاحتياطي الأميركي إلى أكثر من 20 ألف طن وهو أكبر مستوى في التاريخ. وقد ارتبط سعر صرف الدولار بقيمة ثابتة للذهب بواقع 35 دولارا للأوقية طبقا لاتفاقية بريتون وودز، الذي استمر قائما حتى عام 1971 عندما قرر الرئيس الأمريكي نيكسون فك الارتباط بين الدولار والذهب، بسبب الضغوط الاقتصادية لحرب فيتنام وتفاقم العجز التجاري الأمريكي. ومنذ ذلك الوقت تم استنزاف احتياطي الذهب لدى الولايات المتحدة حتى هبط الى حوالي 8 آلاف في الوقت الحاضر، مقابل ذروة تراوحت بين 21 إلى 22 ألف طن في منتصف أربعينات القرن الماضي. ومنذ أوائل ثمانينات القرن الماضي حتى الآن استقرت كمية احتياطي الذهب بين 8.1 ألف طن إلى 8.3 ألفا.
قفزة احتياطي الذهب في الصين
قبل بداية الحرب الباردة مع الولايات المتحدة بلغت كمية احتياطي الذهب لدى البنك المركزي الصيني حوالي 1842.5 طن. لكن السنوات التالية سجلت زيادات كبيرة في كمية الاحتياطي ترافقت مع الحرب التجارية والتكنولوجية، و محاولات تصعيد النزاعات الاقليمية مع الصين من جانب الولايات المتحدة ودول بحر الصين الشرقي والجنوبي بدفع أمريكي لبلدان مثل تايوان والفلبين وفيتنام. وبلغت كمية الاحتياطي 1852 طنا في عام 2018، لكن رقم الاحتياطي قفز في العام التالي إلى 1948 طنا، ثم توالت زيادة كمية الاحتياطي بمعدلات معتدلة حتى اخترقت حاجز الألفي طن في عام 2023 بزيادة 48 طنا عن العام السابق. ووصلت في نهاية العام الماضي إلى 2279.5 طن، حيث أضاف بنك الصين أكثر من 44 طنا من الذهب، محققا مستوى قياسيا جديدا في كمية حيازة المعدن النفيس. ولم يتوقف البنك المركزي الصيني حتى الآن عن الإقبال على الشراء رغم ارتفاع الأسعار. وفي الربع الثاني من العام الحالي بلغت كمية احتياطي الذهب 2292.5 طن، وقفزت في الأسابيع الأخيرة إلى 2298.5 طن. ونعتقد بقوة أنه في وقت ظهور المقال على صفحات هذه الجريدة قد يصبح في حيازة البنك المركزي الصين ما يقرب من 3 آلاف طن من الذهب للمرة الأولى في تاريخ الصين.
هذه الزيادات المستمرة في احتياطي الذهب لدى البنك المركزي الصيني تعكس سياسة راسخة من جانب القيادة السياسية من أجل تعزيز القوة الاقتصادية للبلاد، وزيادة الثقة في عملتها، ودفع المنافسة مع الولايات المتحدة إلى حدود أعلى ترد على التحديات الأمريكية. وطبقا للأرقام المعلنة من جانب السلطات النقدية الصينية، ومجلس الذهب العالمي، فإن الصين زادت كمية احتياطي الذهب لديها بما يتجاوز 460 طنا على الأقل خلال الفترة منذ عام 2017 حتى أوائل الشهر الحالي، بنسبة زيادة تتجاوز 25 في المئة خلال أقل من 8 سنوات، بمتوسط زيادة سنوي يتجاوز 3 في المئة، في حين أن كمية احتياطي الذهب لدى الولايات المتحدة لم تتغير تقريبا. وعلى الرغم من هذه الزيادة فإن الصين لا تزال وراء الولايات المتحدة بمسافة طويلة، حيث ان احتياطيها الرسمي من الذهب يقل عن ثلث الاحتياطي الأمريكي (حوالي 28 في المئة في الوقت الحالي). هذا يعني انه في حال استمرار السياسة الصينية الحالية، ولا توجد أسباب قوية لتغييرها، فإن قوة الطلب على الذهب سوف تستمر حتى الربع الأول من العام القادم. وبملاحظتنا لنمط شراء الذهب بواسطة بنك الصين، فإنه يعكس غالبا زيادة موسمية خلال الربع الأخير من العام والربع الأول من العام التالي. ويزيد من قوة الطلب على الذهب اتجاه أسعار الفائدة الأمريكية الى التراجع وهو ما يقلل شهية المستثمرين لشراء سندات الخزانة الأمريكية (الشكل الأوسع نطاقا لحيازة الدولار). ويجب التحوط هنا من إسقاط توقعات خطية بناء على هذا النمط، وذلك نظرا لأن هناك لاعبين آخرين غير الذهب يتنافسون على اتخاذ مراكز أفضل في السوق مثل الأسهم. وهو ما يقودنا إلى اختبار سلوك بنك الصين تجاه حيازة سندات الخزانة الأمريكية. ونحن نعتبر أن حيازة الصين من سندات الخزانة الأمريكية ترتبط بعلاقة عكسية مع احتياطي الذهب. فكلما زاد بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) كمية الاحتياطي من الذهب، تخلص من جزء مما لديه من حيازة الدولار، ذلك ان الذهب لدى الصين يصبح تدريجيا بديلا ماديا لتعزيز قيمة اليوان في النظام النقدي الدولي.