في ليلة هادئة قرب جبل حريف، تحوّل مشهد عادي إلى حدث أشعل مواقع التواصل الاجتماعي. “الوشق المصري”، هذا الحيوان البري الذي تسلل إلى قاعدة عسكرية إسرائيلية، لم يكن مجرد زائر عابر، بل أصبح بطلًا شعبيًا في عيون البعض، ورمزًا لما يُسمى “المقاومة”.
لكن خلف هذا “الانتصار” المزعوم، تكمن قصة أعمق تكشف عن تعطش المجتمعات للرموز، حتى لو كانت مجرد وهم.
الوشق يضرب.. والترند يشتعل
بدأت القصة عندما اقترب الوشق من جنود إسرائيليين في قاعدة عسكرية.
لم يُصب أحد، ولم تُسجل خسائر، لكن الفيديو الذي انتشر كالنار في الهشيم حوّل الحيوان إلى أيقونة.
على منصة “إكس”، انطلق هاشتاج “جند ربك”، وتسابق النشطاء في تمجيد “البطل المصري” الذي “هاجم العدو”. عبارات الفخر والتهليل ملأت الشاشات، وكأن الوشق كان يحمل راية النصر في مخالبة.
في المقابل، كانت الرواية الإسرائيلية باهتة وبسيطة. مراسل عسكري غرّد: “تم القبض على الوشق ليلة أمس بعد اقترابه من الجنود، وتم تسليمه لمستشفى الحياة البرية للعلاج”.
بل إن بعض الإسرائيليين رأوا في الحادث فرصة لإنقاذ الحيوان، وليس تهديدًا يستحق الذعر. التناقض بين الروايتين كان صارخًا: هنا “انتصار عظيم”، وهناك “حادث روتيني”.
الفصل الثاني: التعلق بالوهم.. علم نفس الرموز
لماذا تحول الوشق إلى بطل؟ الإجابة تكمن في ظاهرة نفسية تُعرف بـ”التعلق بالوهم الجماعي”. عندما تعجز المجتمعات عن تحقيق انتصارات حقيقية، تلجأ إلى تضخيم الأحداث الصغيرة لتشعر بقوتها المفقودة.
هذا الوشق لم يكن مجرد حيوان ضل طريقه، بل صار مرآة تعكس حاجة الناس للأمل، حتى لو كان زائفًا.
علماء النفس يرون أن هذه الآلية الدفاعية تتجلى في عدة صور:
ـ تمجيد الماضي: العيش على ذكريات أمجاد لم نصنعها بأنفسنا.
ـ نظريات المؤامرة: تحويل الهزائم إلى “انتصارات أخلاقية” وهمية.
ـ التضخيم الإعلامي: تصوير حدث عابر كـ”نصر عظيم” لتعزيز الشعور بالتحكم.
الوشق المصري، في هذا السياق، لم يكن مجرد حيوان، بل رمزًا لكل ما تفتقده الجماعة من إنجازات ملموسة.
ماذا قال فيكتور فرانكل عن المعنى المفقود؟
الطبيب النفسي فيكتور فرانكل، الذي عاش تجارب قاسية في معسكرات الاعتقال، يقدم لنا مفتاحًا لفهم هذه الظاهرة.
قال: “عندما يفقد الإنسان القدرة على إيجاد معنى حقيقي في الحياة، فإنه يتشبث بأوهام تمنحه إحساسًا زائفًا بالأمل”.
الوشق، بكل بساطة، كان ذلك الوهم الذي منح البعض شعورًا مؤقتًا بالقوة، لكنه لم يغير شيئًا من الواقع المرير.
الوشق المصري لم يكن بطلًا ولا عدوًا. كان مجرد حيوان بري تلقى العلاج وعاد إلى البرية، بينما نحن المصريون من نسجنا حوله قصصًا تتناسب مع حاجاتنا النفسية.
القصة ليست عن الوشق، بل عنا: عن قدرتنا على خلق انتصارات من لا شيء، وعن هشاشتنا أمام الحقيقة. ربما حان الوقت لنبحث عن معنى حقيقي، بدلًا من الركض وراء أوهام تذوب مع أول شعاع شمس.