في عالم يغرق تحت وطأة الديون والتي تتجاوز الـ346 تريليون دولار، يبرز سؤال جوهري يمس جوهر الاقتصاد العالمي: لمن تعود هذه الديون المهولة، ومن يدفع ثمنها في النهاية؟ هذا السؤال ليس مجرد تأمل فلسفي، بل واقع اقتصادي يؤثر على ملايين المدخرين حول العالم.
وفقاً لتقرير صادر عن معهد التمويل الدولي (IIF) في ديسمبر 2025، بلغ إجمالي الديون العالمية 345.7 تريليون دولار بنهاية الربع الثالث من العام، أي ما يعادل نحو 310% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات؛ إنها تكشف عن نظام اقتصادي يعتمد على الدين كأداة للنمو، لكنه يضع المدخرين في موقف الخاسر الأكبر.
الديون الأمريكية واليابانية: نموذجان للدين الذاتي
تتصدر الولايات المتحدة قائمة المدينين، حيث بلغ الدين الوطني 38.40 تريليون دولار في ديسمبر 2025، بزيادة قدرها 2.23 تريليون دولار عن العام السابق، أي نحو 6.12 مليار دولار يومياً.
أما اليابان، فتأتي في المرتبة الثانية بإجمالي دين حكومي يبلغ 1,324 تريليون ين (حوالي 8.8 تريليون دولار بناءً على أسعار الصرف الحالية)، أي 234.9% من ناتجها المحلي الإجمالي بنهاية مارس 2025.
هذه الأرقام ليست مستقلة؛ إنها جزء من نمط عالمي يتجاوز الـ346 تريليون دولار، مدفوعاً بشكل أساسي بديون الحكومات والشركات في الأسواق الناضجة.
لكن السؤال الأعمق: لمن تدين هذه الدول؟ خلافاً للأساطير الشائعة عن “كائنات فضائية” أو دول سرية، فإن الإجابة تكمن داخل الحدود الوطنية. في الولايات المتحدة، تشتري صناديق التقاعد، شركات التأمين، والبنوك المركزية معظم السندات الحكومية.
وفي اليابان، يملك المواطنون والمؤسسات المحلية الغالبية العظمى من الدين. هذا يعني أن الحكومات تستدين من شعوبها، مما يحول الدين إلى دائرة مغلقة يدور فيها المال داخل الاقتصاد نفسه.
آلية السداد: التضخم كسلاح خفي
هنا يأتي الجانب الموجع: كيف تسدد الحكومات هذه الديون؟ لا يمكن رفع الضرائب بشكل كبير دون خنق الاقتصاد، ولا تقليص الإنفاق دون إثارة الغضب الشعبي. لذا، يلجأون إلى خيار أكثر دهاءً: التضخم.
من خلال طباعة المزيد من النقود، تضعف قيمة العملة، مما يجعل سداد الديون القديمة أسهل باستخدام أموال أقل قيمة. هذه ليست نظرية مؤامرة، بل سياسة اقتصادية معلنة، كما يظهر في ممارسات البنوك المركزية مثل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
نتيجة لذلك، يتحمل المدخرون العبء الأكبر. أولئك الذين يحتفظون بالنقد أو الدخول الثابتة يرون قوتهم الشرائية تتآكل تدريجياً. في المقابل، يستفيد الأثرياء؛ إذ يرتفع سعر الأصول مثل الأسهم والعقارات مع زيادة الكتلة النقدية، مما يعزز ثرواتهم.
هذا التباين يجعل النظام الاقتصادي يبدو كميزان غير متوازن، حيث يخسر المدخر العادي بينما يربح المالكون للأصول.
المدخرون: ضحايا نظام قائم على الدين
في جوهر الأمر، هل المدخرون خاسرون؟ الإجابة، وفقاً للتحليلات الاقتصادية، نعم – لكن ليس بسبب خطأ في الادخار نفسه، بل بسبب طبيعة النقود الورقية في نظام ديني. الادخار في حسابات بنكية أو سندات ذات عوائد ثابتة يصبح مغامرة خاسرة أمام التضخم المستمر. بدلاً من ذلك، ينصح الخبراء بتحويل الادخارات إلى أصول حقيقية مثل العقارات أو الأسهم، للحفاظ على القيمة.
ومع ذلك، هذا النظام ليس مصيراً محتوماً. في اليابان، على سبيل المثال، يُناقش خبراء مثل روبن بروكس سبل الهروب من الدين من خلال تقليل الدين الصافي إلى 130% من الناتج المحلي.219c6d أما على المستوى العالمي، فإن الدعوات لإصلاح النظام النقدي تتصاعد، محذرة من أن الدين ليس مشكلة في حد ذاته، بل هو علامة على خلل في النقود نفسها.
دعوة للوعي الاقتصادي
في نهاية المطاف، الدين العالمي سيُسدد حتماً، لكن ليس من قبل من أنشأوه. المدخرون، إذا لم يتكيفوا، سيظلون الخاسرين في هذه اللعبة. الدرس هنا واضح: فهم لمن تعود الديون يفتح الباب لاستراتيجيات أذكى، تحول المدخر من دائن سلبي إلى مالك لأصول نشطة. في عالم الاقتصاد اليوم، الوعي هو السلاح الأقوى ضد التضخم الخفي.