في أعقاب الإعلانات الأخيرة عن زيارة محتملة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى مصر، تعود الأنظار إلى صفحات التاريخ الدبلوماسي بين واشنطن والقاهرة، حيث يبرز آخر زيارة لرئيس أمريكي لأرض الكنانة قبل وصول ترامب في مايو 2017 كلحظة محورية غيرت مسار العلاقات الأمريكية مع العالم العربي.
كانت تلك الزيارة لباراك أوباما، الرئيس الـ44 للولايات المتحدة، في 4 يونيو 2009، وهي ليست مجرد رحلة رسمية، بل حدث تاريخي أطلق عليه اسم “بداية جديدة”، ألقى فيه أوباما خطابًا أمام آلاف الشباب والمثقفين في جامعة القاهرة، محاولًا إعادة بناء جسور الثقة المتهالكة بعد سنوات من التوترات الناجمة عن حرب العراق وغزو أفغانستان.
سياق الزيارة: جسر عابر للمحيطات
وصل أوباما إلى مطار القاهرة الدولي في صباح يوم الخميس 4 يونيو 2009، مصحوبًا بزوجته ميشيل وابنتهما ماليا، في رحلة رسمية قصيرة لكنها مكثفة، امتدت ليوم واحد فقط.
كانت الزيارة جزءًا من جولة أوسع في الشرق الأوسط، شملت السعودية قبلها، وأسفرت عن لقاء خاص مع الملك عبد الله بن عبد العزيز في الرياض.
اختيار القاهرة كمحطة رئيسية لم يكن اعتباطيًا؛ فهي ليست فقط عاصمة مصر، بل قلب النبض العربي والإسلامي، حيث تتقاطع التاريخ والثقافة في أسواقها العتيقة ومعالمها الخالدة.
أوباما، الذي يحمل جذورًا إندونيسية وكينية تجعله أقرب إلى العالم الإسلامي من سابقه جورج بوش الابن، سعى من خلال هذه الزيارة إلى تصحيح مسار السياسة الخارجية الأمريكية، التي أدت إلى تصاعد الاستياء الإسلامي تجاه واشنطن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
استقبله الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك في قصر الاتحادية، في لقاء خاص استمر لساعات، تناول فيه الجانبان قضايا السلام الإقليمي، التعاون الأمني، والدعم الاقتصادي لمصر.
كان مبارك، الذي حكم مصر لثلاثة عقود، يمثل رمز الاستقرار في نظر واشنطن، لكنه كان أيضًا يواجه انتقادات داخلية متزايدة بشأن الفساد والقمع السياسي.
أعلن أوباما في البيان المشترك دعمه لـ”الشراكة الاستراتيجية” بين البلدين، مشددًا على أن مصر “شريك حيوي في مكافحة الإرهاب وتعزيز السلام في الشرق الأوسط”، مع التزام بتقديم مساعدات عسكرية سنوية تصل إلى 1.3 مليار دولار، وهي أعلى المستويات في تاريخ العلاقات الثنائية.
الخطاب الذي هز العالم: “نحن لسنا أعداء”
كانت قمة الزيارة خطاب أوباما في قاعة الندوات بجامعة القاهرة، أمام جمهور يتجاوز الـ3000 شخص، بما في ذلك طلاب وأكاديميون وصحفيون من مختلف أنحاء العالم العربي.
بدأ الخطاب بتحية إسلامية “أسلم عليكم”، ثم تطرق إلى جذوره الشخصية، قائلًا: “أنا أحمل في داخلي قصة مسلم ومسيحي ويهودي، وهذا يجعلني أفهم الآخرين”.
كان الخطاب، الذي استمر لأكثر من 55 دقيقة، مدروسًا بعناية، مستندًا إلى اقتباسات من القرآن والكتاب المقدس والتلمود، ليؤكد على “الاحترام المتبادل” بين الثقافات.
غطى الخطاب سبعة محاور رئيسية: مكافحة الإرهاب دون انتهاك الحريات، حماية إسرائيل مع حق الفلسطينيين في دولة مستقلة، رفض الأسلحة النووية في إيران، تعزيز حقوق المرأة والديمقراطية، حرية التعبير، والعدالة الاقتصادية العالمية.
قال أوباما: “نحن لسنا أعداء، بل أصدقاء يمكن أن يتعاونوا في بناء عالم أفضل”، في إشارة مباشرة إلى التوترات الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلي والحروب الأمريكية. كما دعا إلى “حل الدولتين” للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وأعلن عن مبادرة تعليمية جديدة لتبادل 100 ألف طالب أمريكي ومسلم سنويًا، لتعزيز الفهم المتبادل.
استقبل الخطاب بحفاوة في مصر والعالم العربي، حيث أشاد به الرئيس مبارك كـ”رسالة أمل”، ووصفته الصحف المصرية بـ”الخطاب التاريخي”.
لكنه أثار جدلاً في إسرائيل، حيث اعتبره رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو “غير متوازنًا”، وفي الولايات المتحدة، حيث انتقدته اليمين المحافظ كـ”تنازل عن القيم الأمريكية”.
على المستوى الشعبي، أدى الخطاب إلى ارتفاع شعبية أوباما في الشرق الأوسط بنسبة 20%، وفقًا لاستطلاعات “بيو ريسيرش”، لكنه لم يترجم إلى تغييرات جذرية في السياسة الأمريكية، حيث استمرت الدعم العسكري لإسرائيل دون مقابل فلسطيني ملموس.
لمسات شخصية: بين الأهرامات والأسفنكس
لم تقتصر الزيارة على الجدران الرسمية؛ فقد أفلح أوباما في إضافة لمسة إنسانية بزيارة سريعة للأهرامات الجيزة والأسفنكس، مصحوبًا بمبارك وابنه جمال.
وقف أمام الهرم الأكبر، أعرب عن إعجابه بـ”عظمة الحضارة المصرية القديمة”، قائلًا إنها تذكير بـ”قدرة الإنسان على بناء المعجزات”.
كانت هذه اللحظة رمزية، تعكس محاولة أوباما لربط الماضي بالحاضر، وأثارت حماس الشعب المصري، الذي رأى فيها اعترافًا بتراثه العريق.
إرث الزيارة: بذور لم تنبت بعد
غادر أوباما القاهرة مساء ذلك اليوم، متجهًا إلى برلين ثم فرنسا، تاركًا وراءه خطابًا أصبح مرجعًا في الدبلوماسية الأمريكية. بعد 16 عامًا، ومع اقتراب زيارة ترامب المحتملة في سياق مختلف تمامًا – يركز على الاستثمارات والأمن – يبدو خطاب أوباما كحلم بعيد المنال.
فقد شهدت العلاقات الأمريكية-المصرية تدهورًا بعد ثورة 2011 وصعود الإخوان المسلمين، ثم عودة الجيش، ومع ذلك، يظل ذلك اليوم في يونيو 2009 شاهداً على إمكانية الحوار، ودعوة لإعادة النظر في الشراكات الإقليمية في عالم يتغير بسرعة.