منذ أن عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، بدا واضحًا أن أولوياته في السياسة الخارجية مختلفة تمامًا عن سلفه. لكن ما لم يكن متوقعًا هو أن تتحول جمهورية الكونغو الديمقراطية، بكل تعقيداتها، إلى إحدى أبرز ساحات تحركاته الدولية.
فبينما ينشغل العالم بملفات الصين وأوكرانيا والشرق الأوسط، ظهر ترامب فجأة في مشهد غير مألوف: يرعى اتفاق سلام أفريقي بين الكونغو ورواندا في واشنطن، بحضور رسمي، ووسط تغطية إعلامية دولية، وبمشاركة لافتة من دولة قطر. فما الذي دفع الرئيس الأميركي إلى هذا الملف المعقّد؟ ولماذا الآن؟
الإجابة تبدأ من الشرق الكونغولي، حيث يشتعل الصراع منذ شهور باشتباكات دموية بين الجيش الحكومي وميليشيا “حركة 23 مارس” أو M23، وهي جماعة متمردة تتهم الكونغو رواندا بدعمها، بينما تتهم رواندا الحكومة الكونغولية بإيواء مجموعات مسلحة تهدد أمنها القومي. الصراع ليس جديدًا، لكنه بلغ ذروته مؤخرًا بعد سيطرة الميليشيات على مدن استراتيجية مثل غوما وبوكافو، ما أجبر حكومة كينشاسا على القبول بالتفاوض تحت ضغط ميداني شديد.
لكن خلف هذا التصعيد العسكري، تقف معركة من نوع آخر: معركة على الثروات. تمتلك الكونغو واحدًا من أغنى الاحتياطات العالمية من المعادن الاستراتيجية، مثل الكوبالت، والليثيوم، والتانتالوم، وهي العناصر الأساسية في صناعة الهواتف الذكية، والسيارات الكهربائية، والتقنيات النظيفة. هذا الغنى الطبيعي حوّل شرق البلاد إلى ساحة تنافس دولي صامت تقوده الصين منذ سنوات من خلال شركاتها، بينما اكتفت الولايات المتحدة بالمراقبة… حتى قرر ترامب كسر هذا الصمت.
في هذا السياق، لم يكن دخول الولايات المتحدة بقيادة ترامب إلى الملف الكونغولي استمرارًا لسياسة سابقة، بل يمثل انحرافًا حادًا عن الخط الأميركي التقليدي. تاريخيًا، كانت واشنطن حاضرة بشكل غير مباشر: دعمت بعثات الأمم المتحدة، موّلت برامج تنمية، وركزت على حقوق الإنسان خلال إدارة أوباما، لكنها تجنبت التدخل الاقتصادي أو العسكري المباشر. أما على المستوى الاستثماري، فقد وقفت الشركات الأميركية في الخلف، تاركةً المجال واسعًا أمام النفوذ الصيني الذي توسّع عبر صفقات بنية تحتية مقابل موارد.
اتفاق “واشنطن”، الذي رعته إدارة ترامب في يونيو 2025، لم يكن مجرد تسوية سياسية بين الكونغو ورواندا، بل إعلانًا اقتصاديًا واضحًا. فالاتفاق، الذي نص على انسحاب رواندي من مناطق شرق الكونغو، ووقف كينشاسا دعم الميليشيات المعادية لرواندا، فتح الباب أمام استثمارات أميركية ضخمة في قطاع التعدين، وخلق إطارًا إقليميًا جديدًا للتكامل الاقتصادي بدعم مباشر من واشنطن.
لكن اللافت أن هذا التحول المفاجئ في السياسة الأميركية لم يخلُ من لحظات عبثية كشفت حدود معرفة الإدارة بالواقع الأفريقي. في 21 مايو 2025، وخلال لقاء رسمي في البيت الأبيض مع رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، حاول ترامب دعم نظريته المثيرة للجدل حول “إبادة المزارعين البيض” في جنوب أفريقيا. وأثناء حديثه، عرض صورة مطبوعة قائلاً بثقة: “دي كلها مزارعين بيض بيُدفنوا”. لكن الصورة لم تكن من جنوب أفريقيا أصلًا، بل من شرق الكونغو، وتوثّق مذبحة ارتكبتها ميليشيا M23 في إحدى القرى، حيث نُقلت جثث الضحايا في أكياس بلاستيكية. رامافوزا لم يُخفِ دهشته، وصحّح المعلومة بهدوء، مؤكدًا أن الصورة لا علاقة لها ببلاده، ولا يوجد عنف عرقي ممنهج كما يروّج له ترامب. حادثة اختلطت فيها الجغرافيا بالسياسة، كاشفةً عن ضعف الإلمام حتى بأبسط تفاصيل الملف الذي تقود واشنطن مبادرة لحله.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن ترامب تعامل مع الملف بعقلية الصفقات. فمنذ حملته الانتخابية، تعهّد بـ”استعادة السيطرة على سلاسل الإمداد الاستراتيجية” وتقليل الاعتماد على الصين.
وفي ظل الطلب العالمي المتزايد على المعادن النادرة، أصبحت الكونغو حجر زاوية في معادلة النفوذ الاقتصادي، ما دفعه إلى الاستثمار في السلام من بوابة الموارد.
وفي خلفية هذه الديناميكية، برز الحضور القطري كمكوّن أساسي في المعادلة. فقد أدارت الدوحة خطوط التفاوض بهدوء، مستفيدة من خبرتها الدبلوماسية في ملفات مشابهة. الشراكة بين واشنطن والدوحة في هذا الملف تعكس نموذجًا جديدًا من التعاون، يتجاوز الدبلوماسية التقليدية إلى آفاق أكثر مرونة وقدرة على المناورة.
لكن الاتفاق لم يسلم من الانتقادات. وصفه نشطاء كونغوليون بأنه “سلام انتقائي”، يُراعي المصالح الاقتصادية أكثر من تحقيق العدالة.
فلا تزال الميليشيات تفرض نفوذها على الأرض، والانتهاكات لم تخضع للمساءلة، والضمانات الحقوقية للسكان المحليين غائبة عن المشهد.
ومع ذلك، يبقى أن ترامب، بهذه الخطوة، أعاد وضع الولايات المتحدة على خريطة التأثير في أفريقيا، ولكن بأدوات جديدة.
فالرئيس الذي لطالما عُرف بنزعته الانعزالية، بدا وكأنه يعيد رسم علاقات واشنطن مع القارة من بوابة الكونغو، كصفقة تجارية قبل أن تكون تحالفًا سياسيًا.