في عالم الصناعات الدفاعية، تبرز الإمارات كقصة نجاح سريعة ومثيرة للجدل. كيف حققت دبي وأبوظبي صادرات دفاعية بلغت 2.3 مليار دولار في 2024، أي نحو 14 ضعف صادرات مصر البالغة 164 مليون دولار في الفترة نفسها؟ وإذا امتد النظر إلى الإيرادات الإجمالية للقطاع، فإن الإمارات تتفوق بنحو 30 ضعف، حيث سجلت مجموعة “إيدج” (EDGE) – الذراع الرئيسي للصناعة الدفاعية الإماراتية – إيرادات تصل إلى 4.9 مليار دولار في 2024، مع توقعات بـ5 مليارات في 2025. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات؛ إنها تعكس تحولاً استراتيجياً يجمع بين الطموح الاقتصادي والنفوذ الجيوسياسي. لكن هل هذا النموذج “حلو” كما يُروج له، أم أنه يخفي مشاكل عميقة قد تهدد استدامته؟ في هذا التحليل، نستعرض القصة الكاملة لتجربة الإمارات، من الإنجازات إلى التحديات.
جذور التحول: من الاستيراد إلى التصدير في عقد واحد
بدأت قصة الصناعات الدفاعية الإماراتية قبل 11 عاماً فقط، في 2014، عندما أُسست مجموعة “إيدج” كمظلة استثمارية تضم أكثر من 25 شركة في مجالات الدفاع والأمن والتكنولوجيا المتقدمة. خلافاً للعديد من الدول التي تبني صناعتها الدفاعية كامتداد للجيش، اعتمدت الإمارات نهجاً تجارياً بحتاً، مدعوماً بصناديق سيادية مثل “أدكو” (ADQ). هيكل “إيدج” الإداري مدني تكنوقراطي، يعتمد على مؤشرات أداء رئيسية (KPIs) ومراجعات مالية سنوية، بعيداً عن التدخل العسكري المباشر.
شهدت السنوات اللاحقة دمجاً سريعاً لشركات محلية مثل “توازن” و”نمر” و”هالكون”، مما حول الإمارات من مستورد رئيسي للأسلحة إلى منتج ومصدر. اليوم، يغطي “إيدج” مجالات مثل الذخائر الذكية، المسيرات الخفيفة، أنظمة الدفاع الجوي قصيرة المدى، والإلكترونيات التكتيكية. هذا التحول لم يكن مصادفة؛ إنه جزء من استراتيجية تنويع الاقتصاد بعد النفط، حيث أصبح القطاع الدفاعي “مختبراً تكنولوجياً” يدعم الذكاء الاصطناعي والروبوتات في القطاعات المدنية، فيما يُعرف بـ”التأثير الإشعاعي المزدوج الاستخدام” (dual-use spillover effect).
اقتصادياً، يُعد هذا النموذج نموذجياً لـ”التخصص الدقيق” (niche specialization)، حيث ركزت الإمارات على فجوات السوق العالمية التي تتجاهلها الشركات العملاقة مثل “باي سيستمز” البريطانية أو “ليوناردو” الإيطالية. النتيجة؟ صادرات بلغت 4.8 مليار دولار في 2024، مع تنويع يفوق حتى صادرات النفط من حيث عدد الدول المستوردة (91 دولة حالياً).
الشراكات الدولية: قوة التعاون أم أداة للنمو السريع؟
نجاح “إيدج” يعتمد على نموذج “منصة شراكات مفتوحة”، حيث تتعاون مع عمالقة عالميين مثل “رايثيون” الأمريكية، “باي سيستمز”، “ليوناردو”، و”بايكار” التركية. في 2025، وقعت “إيدج” اتفاقيات حاسمة، مثل مشروع مشترك مع “ليوناردو” لإنتاج أنظمة دفاع جوي في أبوظبي (بنسبة 51% للإمارات)، وخطط لإنتاج مشترك مع شركات أمريكية لتلبية احتياجات السوق الأمريكي. كما أعلنت عن توسع في البرازيل وسويسرا، بما في ذلك مرافق إنتاج جديدة لفرعيها.
أما الاستحواذات، فهي محور الجدل: في 2023-2025، اشترت “إيدج” حصصاً كبيرة في شركات مثل “ميلريم روبوتيكس” الإستونية (أكبر استثمار في صناعتها الدفاعية)، “أنافيا” السويسرية (مسيرات)، 50% من “سيات” البرازيلية (ذخائر دقيقة)، “فلاريس” البولندية (طائرات خفيفة)، و”كوندور” البرازيلية. بل وصل الأمر إلى 30% في شركة إسرائيلية لتكنولوجيا الطائرات بدون طيار في يناير 2025. هذه الخطوات نقلت تكنولوجيا وخبرات بسرعة، لكنها أثارت تحقيقات أوروبية، مثل تلك المتعلقة بمشروع “iMUGS” للدبابات الآلية، خوفاً من تسرب تقنيات مدعومة من الاتحاد الأوروبي.
الجانب المظلم: مشاكل الاعتماد والانتقادات الدولية
رغم الإعجاز السريع، يواجه النموذج الإماراتي ثلاثة تحديات رئيسية. أولها نقص الكوادر المحلية: رغم حملات “الإماراتة” المكثفة، لا يزال 80% من العاملين أجانب، و50% فقط من المهندسين إماراتيين. بناء القدرات يحتاج عقوداً، لا سنوات.
ثانياً، الاعتماد على المكونات الحرجة المستوردة (رقائق إلكترونية، حساسات، برمجيات من أمريكا وأوروبا وكوريا الجنوبية)، مما يجعل الإنتاج “تجميعياً” أكثر من “ابتكاري سيادي”. هذا يعرض الإمارات لـ”فخ الاعتماد التكنولوجي” (technological dependency trap)، حيث يتوقف الإنتاج فوراً في حال عقوبات أو حروب تجارية، ويحد من تصنيف المنتجات كـ”تقنية عالية” حقيقية.
أما التحدي الثالث والأكبر، فهو الاتهامات الدولية بالسلوكيات الاحتكارية (monopolistic behaviors) و”تشويه السوق” (market distortion). في أسواق مثل كينيا، بولندا، البرازيل، وإسبانيا، تُتهم “إيدج” بفرض شروط عقود تحول الشركات المحلية إلى موردين ثانويين، مع نقل جزئي للتكنولوجيا إلى الإمارات. هذا أدى إلى حملات مقاطعة عالمية، مدعومة بتقارير عن “الاستحواذ المفترس” (predatory acquisition)، حيث تستفيد “إيدج” من دعم سيادي يتجاوز 5 مليارات دولار سنوياً لشراء حصص بأسعار مرتفعة دون ضغط ربحية فورية، مما يخنق المنافسة المحلية والابتكار في الدول المستهدفة. داخل الإمارات أيضاً، تسيطر “إيدج” على السوق المحلي بشكل شبه كامل، مما يهدد الشركات الصغيرة ويخلق “فقاعة ابتكار” غير مستدامة.
مقارنة مع مصر: درس في الاستراتيجيات المختلفة
بالمقابل، تعتمد مصر على صناعة دفاعية تاريخية مرتبطة بالجيش، مع صادرات متواضعة تركز على الأسواق الأفريقية والعربية. ميزانية الدفاع المصرية تبلغ 5.2 مليار دولار في 2024، لكن الإيرادات التصديرية تبقى محدودة بسبب التركيز على الإنتاج المحلي دون الشراكات الدولية الواسعة. الإمارات تفوق هنا بفضل نهجها التجاري، لكن مصر تتجنب مخاطر الاعتماد الخارجي، مما يجعل نموذجها أكثر صموداً على المدى الطويل.
