في مشهد مأساوي يعكس حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة منذ أشهر، لقي 20 فلسطينيًا على الأقل مصرعهم، وأُصيب العشرات بجروح متفاوتة الخطورة، جراء انقلاب شاحنة محملة بالمساعدات الغذائية في مدينة دير البلح، وسط القطاع، في ساعة متأخرة من ليل الثلاثاء/الأربعاء.
وبحسب مصادر طبية فلسطينية، فقد وقع الحادث أثناء محاولة حشود من المدنيين التجمهر حول الشاحنة المنكوبة، في محاولة للحصول على الغذاء، في ظل تفاقم أزمة الجوع وانعدام الأمن الغذائي الذي يضرب القطاع الساحلي المحاصر منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر قبل الماضي.
تفاصيل الحادث
الشاحنة كانت تسلك طريقًا غير مهيأ للمرور، ما أدى إلى فقدان السيطرة عليها وسط التجمعات البشرية الكثيفة. ورغم محاولات السائق تفادي الحشود، إلا أن تدهور البنية التحتية وسوء تنظيم عمليات توزيع المساعدات ساهما في وقوع الكارثة.
وتشير الروايات الميدانية إلى أن غالبية الضحايا من سكان المناطق المنكوبة، الذين يعيشون أوضاعًا معيشية متردية ويعانون من انعدام المواد الغذائية الأساسية. وتجمّع المئات حول الشاحنة في محاولة للحصول على جزء من المساعدات، إلا أن التدافع الشديد وتحرك المركبة في طريق وعر أديا إلى انقلابها فوق رؤوس المنتظرين.
مشاهد متكررة.. وكارثة متواصلة
هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها. فقد شهد قطاع غزة خلال الأشهر الأخيرة عدة مواقف مشابهة، راح ضحيتها العشرات أثناء محاولات الحصول على مساعدات غذائية، سواء بسبب التدافع، أو إطلاق نار أثناء التوزيع، أو انهيار حمولات الشاحنات.
وتصف منظمات إنسانية الوضع في غزة بأنه “كارثي وغير مسبوق”، مشيرة إلى أن أكثر من مليوني شخص يواجهون خطر المجاعة، في ظل استمرار الحصار الإسرائيلي، وإغلاق معظم المعابر منذ اندلاع الحرب، باستثناء بعض الفتحات المحدودة والطارئة التي لا تلبي حتى الحد الأدنى من الاحتياجات.
تقارير أممية تحذّر: الجوع يفتك بالسكان
في هذا السياق، قال المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فيليب لازاريني، إن “الجوع أصبح القاتل الجديد في غزة”، مشيرًا إلى أن استمرار تعطيل دخول المساعدات، والقيود المفروضة على عمل الوكالات الإنسانية، يدفع السكان إلى حافة الهلاك.
وأضاف لازاريني، في منشور على منصة “إكس” (تويتر سابقًا): “حان الوقت لتقديم المساعدات دون عوائق وبكرامة. يجب السماح للأمم المتحدة وشركائها بالوصول الكامل والآمن لتأدية واجبهم الإنساني”.
ويؤكد مسؤولو الأونروا أن معدلات سوء التغذية الحاد ارتفعت بشكل مخيف، خاصة بين الأطفال، وأن استمرار الوضع على ما هو عليه قد يؤدي إلى انهيار كامل للبنية الاجتماعية والصحية في القطاع.
مساعدات محدودة لا تكفي
رغم الجهود التي تبذلها بعض الجهات الدولية لإيصال مساعدات إنسانية إلى غزة، إلا أن معظم الشحنات تواجه صعوبات كبيرة في الدخول، أو تُوزّع بطريقة غير آمنة، ما يؤدي إلى فوضى ميدانية، كما حدث في دير البلح.
وفي الوقت الذي تتكرر فيه مشاهد تدافع السكان الجوعى حول الشاحنات، تُحذّر منظمات الإغاثة من غياب التنسيق، وعدم وجود آلية عادلة وآمنة لتوزيع الغذاء.
كما حذّر الصليب الأحمر والأمم المتحدة من أن “الفوضى في توزيع المساعدات قد تتحول إلى مصدر إضافي للخطر” على حياة المدنيين، خصوصًا في المناطق التي تفتقد للتنظيم والمراقبة، وسط غياب شبه تام للجهات المسؤولة عن حماية المدنيين.
انتقادات متصاعدة للمجتمع الدولي
في المقابل، تتصاعد الانتقادات الموجهة للمجتمع الدولي بسبب ما يصفه البعض بـ”الصمت المطبق” تجاه المجاعة التي تتفشى في القطاع، وسط استمرار القصف، وتعطيل الإمدادات الإنسانية.
وناشدت منظمات حقوقية وقيادات دينية وسياسية في أكثر من دولة، بضرورة “إطلاق جسر إنساني آمن ودائم” إلى غزة، ووقف كل الإجراءات التي تعرقل وصول الغذاء والدواء.
كما دعا مراقبون إلى تحميل إسرائيل مسؤولية قانونية وأخلاقية، بصفتها “قوة احتلال”، مطالبين بتدخل دولي عاجل يضمن دخول المساعدات دون شروط سياسية أو أمنية تعرقلها.
مخاطر أمنية في مناطق التوزيع
وتنقل تقارير ميدانية منظمات محلية ودولية، أن أغلب مراكز توزيع المساعدات داخل غزة تفتقر إلى الأمان، في ظل استمرار الغارات الجوية، وتراجع دور المؤسسات المحلية التي كانت تشرف على التوزيع سابقًا.
وتكشف مشاهد الفيديو المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي عن فوضى عارمة وازدحام شديد يرافق كل عملية توزيع، حيث يتجمّع الآلاف حول الشاحنات، ما يجعل الحوادث شبه حتمية.
ويطالب نشطاء بإنشاء نقاط توزيع ثابتة ومنظمة، بإشراف من الأمم المتحدة، وتحت حماية دولية، لتفادي تكرار هذه الكوارث.
شاهد عيان يروي التفاصيل
قال أحد الشهود العيان من دير البلح، وهو شاب في الثلاثينات من عمره، لمراسل سكاي نيوز عربية: “كنت واقف على بعد أمتار من الشاحنة، الناس كانوا بيتدافعوا بشدة، وكل واحد خايف يفوته كيس رز أو علبة ساردين. فجأة الشاحنة مالت ووقعت فوق الناس، والصرخات كانت مرعبة”.
وأضاف: “الناس هنا جعانة حرفيًا، وبيتحركوا بالغريزة، مش بالعقل. لو فضل الحال كده، هتشوفوا مآسي أكتر من دي”.
هل تُسمع الصرخات؟
وفي ظل استمرار سقوط الضحايا، يتساءل كثيرون: هل تُسمع صرخات الجوعى؟ .. وهل يتحرك العالم لوقف نزيف الأرواح الناتج عن الجوع بدلًا من القنابل؟
بينما لا تزال شوارع دير البلح تغرق في الدماء والأنين، تبقى الكارثة مستمرة، بانتظار تحرّك حقيقي، يتجاوز الشجب والإدانة، نحو خطوات عملية تنقذ ما تبقى من الحياة في غزة.