الشرق الأوسط على طريقة ترامب: اتفاق يُوقَّع بدون المتحاربين.. لم يُشبه هذا المشهد أي اتفاق في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي. لم تُرفع أعلام الأمم المتحدة، لم تجلس الفصائل المسلحة، لم تظهر جامعة الدول العربية بالطبع في الصورة،ولم يُدعَ حتى أصحاب الحرب أنفسهم إلى الطاولة. المشهد بدا كما لو أن الشرق الأوسط صار سهمًا في بورصة سياسية يديرها رجل واحد يجلس في المنتصف بثقة التاجر ، لا بوقار رجل الدولة. ترامب لم يدخل القاعة كرئيس للولايات المتحدة، بل كمن يضع توقيعه على عقد تشغيل إقليمي جديد، حيث لا قيمة لصوت المدافع بعد الآن، بل لمن يملك حق المرور والتحكم.
في تل أبيب، كان الكنيست يرفع صوته لأقصى درجة. جلس النواب بالساعات يعددون ما يسمونه “إنجازات الحرب”، كما لو أن لغة الصوت تستطيع إقناع التاريخ بأن السيطرة ما زالت إسرائيلية خالصة. هآرتس علّقت بأن الجلسة “أقرب إلى محاولة إثبات السيطرة منها إلى جلسة إعلان نصر”، فيما كتبت يديعوت أحرونوت أن نبرة نتنياهو كانت “لغة من يشرح قوته أكثر مما يمارسها”. بدا البرلمان الإسرائيلي كمن يتحدث إلى الداخل ليعوّض فراغًا يتشكل في الخارج — فراغ القرار.
وعلى الضفة الأخرى، جلست القاهرة بلا انفعال. لم ترفع صوتًا، لم تُلوّح بخطاب وطني، لم تطلب اعترافًا. كانت تدرك أن من يملك رفح وكرم أبو سالم أى من يملك المعابر “مفاتيح غزة “لا يحتاج إلى خطبة نصر، بل إلى صمت واثق يُشبه إمساك المفتاح. لم يتم تقديم مصر كوسيط، بل كممر لا يمكن تجاوزه. في السياسة، من يمسك بالممر يمسك بالنقطة التي يُعاد منها تعريف السلطة، ولو بصمت.
ثم جاء ترامب. لم يقصِ نتنياهو من الصورة على الإطلاق ، لكنه فعل ما هو أذكى: أبقاه فيها ليصفّق ويشرح أمام الكنيست، بينما سلّم آليات التنفيذ لطرف آخر أكثر انضباطًا وأقل دراما. في منطق الصفقات، هذه ليست شراكة بل إزاحة هادئة لمقاول فقد صلاحية الإشراف على المشروع. إسرائيل ستظل في الصورة — صورة تُذكّر بأنها قاتلت لعامين — لكن واشنطن قررت أن مرحلة الإدارة لا تُترك لمن تعوّد على إدارة الحرب بالصوت.
وهنا تظهر اللحظة المفصلية: ترامب ترك لتل أبيب خطاب المكاسب، لكنه احتفظ لنفسه بالمكاسب الحقيقية. بدا كمن يقول: “لقد قاتلتم بما فيه الكفاية، حصلتم على اعتراف لفظي نجاحاتكم وتوسع لم تحلموا بحجمه، أما الآن فالملف يعود إلى من يعرف كيف يحوّل الحرب إلى صفقة موقّعة ومسجّلة.” إسرائيل ربحت لحظة التصفيق، لكن أمريكا بدأت لحظة التحصيل لحظة البدء في جمع الاموال .
فايننشال تايمز وصفت المشهد بوضوح: “ترامب يدير غزة كملف قابل لإعادة التدوير السياسي”، فيما كتبت واشنطن بوست أن القاهرة “انتقلت من وسيط إنساني إلى شريك قرار دون إعلان رسمي”. لوموند الفرنسية رأت أن غياب الأمم المتحدة يعني “ولادة نظام وصاية أمريكي مباشر، بلا غطاء قانوني دولي”، وهو توصيف قاسٍ لكنه شديد الدقة.
في هذه اللحظة، بدا الكنيست كمن يصرخ في الداخل بينما الاتفاق يُنَفّذ في الخارج. بدا نتنياهو حاضرًا في الصورة… لكنه لا يمسك بالقلم. وبدا الشرق الأوسط كما لو أنه دخل رسميًا منطق الإدارة بدل منطق النصر والهزيمة. لم تُحرّر غزة، ولم تُسلَّم لإسرائيل، بل تم تحويلها إلى ملف إدارة تشغيل تُوزَّع صلاحياته بين من يملك المال، ومن يملك المعبر، ومن يملك حق الاعتراف النهائي.
وهنا يبدأ السؤال الذي لن يطرح علنًا:
هل وُقّع الاتفاق باسم إسرائيل… أم باسم صفقة ترامب؟
لماذا غيّر ترامب نبرته فجأة تجاه القاهرة بعد سنوات من التوتر؟
هل لأن إسرائيل استُهلكت عسكريًا بما يكفي وآن أوان دخول “عقل الصفقة”؟
أم لأن منطق الهيمنة الأمريكي قرر أن الشرق الأوسط لا يحتاج إلى قائد ميداني… بل إلى مدير تشغيل؟الاسئلة كثيرة بل كثيرة جدا حول بنود الاتفاق ! !
“كل ما سبق كان تمهيدًا بصريًا فقط. أما جوهر الصفقة، فلم يكن في المصافحة ولا في الكاميرا، بل في البنود التي لم ينتبه لها أحد بينما العالم كان يتفرج.