منذ نشأتها وتوقيع اتفاقيات الهدنة في عام 1949، تبنت إسرائيل استراتيجية ثابتة في إدارة الصراع مع الأطراف العربية، تقوم على التفاوض الثنائي المنفرد وتجنب المسارات الجماعية متعددة الأطراف، مسلحة بتأييد قوى دولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
تشير وقائع التاريخ الدبلوماسي للصراع إلى إصرار إسرائيلي على فرض رؤيتها من خلال هذا التكتيك الذي يهدف إلى تحييد الضغط الدولي وتقنين مكاسبها على الأرض.
من الأمم المتحدة إلى كامب ديفيد: فرض الإرادة بالتفاوض الفردي
حتى في مراحلها الأولى، وتحديداً عند سعيها للانضمام إلى الأمم المتحدة، اعتمدت إسرائيل على مفاوضات ثنائية حاسمة. فبالرغم من اشتراط الولايات المتحدة آنذاك وضع مادة خاصة بـعودة اللاجئين الفلسطينيين والتعويض كشرط للموافقة على الانضمام، إلا أن هذا الالتزام كان مقدماً للولايات المتحدة بشكل أساسي، وتم تغييبه عملياً بعد إتمام الضم، على الرغم من النص عليه في وثيقة الانضمام للأمم المتحدة. هذه سابقة أرست قاعدة التعامل مع الالتزامات الدولية بانتقائية.
وظل هذا المنهج مستمراً، حيث اتسمت إدارة إسرائيل لمباحثاتها مع الدول العربية بصيغة منفردة. وبقيت إسرائيل تتساهل في تنفيذ القرارات الدولية، بما في ذلك قرار مجلس الأمن رقم 242، ومباحثات يارنج التي تلته.
بلغت هذه الاستراتيجية ذروتها في مفاوضات كامب ديفيد التي قادت إلى اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية. فقد نجحت إسرائيل، بدعم أمريكي، في فرض صيغة المفاوضات الثنائية المباشرة على الرئيس المصري أنور السادات. وقد ساهمت رغبة السادات في الابتعاد عن النفوذ السوفييتي والتقرب من السياسة الأمريكية في تسهيل هذا المسار المنفرد، مما أفضى إلى “حل منفرد” أضعف الموقف العربي الموحد.
من مدريد إلى أوسلو: تكريس الثنائية على حساب الشرعية الدولية
بعد حرب تحرير الكويت والتغيرات التي مهدت لما عُرف بـ”النظام العالمي الجديد”، انعقد مؤتمر مدريد الدولي عام 1991 بمشاركة دولية واسعة. ومع ذلك، أصرت إسرائيل على سحب الفلسطينيين إلى مسار تفاوضي منفصل، مما أدى إلى اتفاقيات أوسلو (1993-1995) السرية والمنفردة.
تم التوصل إلى هذه الاتفاقيات بعيداً عن الرقابة والضمانات المباشرة للمجتمع الدولي، مما أتاح صياغتها بـطريقة مراوغة تضمنت “إمكانيات التسويف” وتحويل التفاهمات إلى حبر على ورق، خاصة فيما يتعلق بمسائل الوضع النهائي كـ(القدس، الحدود، اللاجئون).
ما بعد غزة: استمرار التملص من المحاسبة الدولية
في أعقاب التطورات الأخيرة في غزة، تصاعدت الرغبة العالمية والشعبية لإيجاد حل جذري لأصل الصراع. وعلى الرغم من أن الضغط الهائل للرأي العام العالمي كان خلف التوصل إلى وقف هش لإطلاق النار وعقد مؤتمر إقليمي كـمؤتمر شرم الشيخ، إلا أن إسرائيل والولايات المتحدة استمرتا في التنصل من أي التزامات مستمدة من وثائق وقرارات تستمد شرعيتها من القانون الدولي ومنظمة الأمم المتحدة.
لقد تجلى هذا الموقف في:
غياب التمثيل الإسرائيلي والأمريكي عن مؤتمرات حاسمة مثل مؤتمر شرم الشيخ.
خلو البيان الختامي من نصوص تلزم الأطراف بالقوانين والقرارات الدولية بشكل واضح ومُلزم.
هذا التكتيك يهدف إلى إبقاء إسرائيل وداعميها خارج دائرة المحاسبة بأدوات وأساليب المجتمع الدولي، ومواصلة فرض ما يمكن وصفه بـ”البلطجة السياسية والدبلوماسية” بشكل منفرد، أو استفراداً بالطرف الأضعف لضمان تحقيق أهدافها الجيوسياسية دون قيود أو رقابة فعلية.
إن الإصرار على المفاوضات الثنائية وتجاهل المسارات الدولية يمثل عقبة رئيسية أمام إرساء سلام عادل وشامل يتسق مع مبادئ الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة.