ما عُرض في شرم الشيخ كهدنة كان في حقيقته عملية نقل سلطة من الميدان إلى الوثيقة. لم يكن المشهد احتفالًا بإنهاء الحرب، بل كان إعلان بدء إدارة جديدة للمنطقة لا تُبنى على اتفاق نهائي مغلق، بل على سلسلة مراحل مرنة يمكن تعديلها في كل محطة وفق موازين القوة. هكذا لا يولد السلام دفعة واحدة، بل تُسكب غزة على مراحل، بندًا يُفتَح الآن، وبندًا يُرحَّل للغد، وبندًا يُترك نصف غامض حتى يحين وقت تشغيله سياسيًا.
الصيغة الرسمية قالت: “وقف إطلاق نار وفق تقييم الالتزام” — وهي جملة تكفي ليدرك أي قارئ متمرس أن النار لم تُطفأ، بل جرى تعليقها تحت شرط قابل للاستدعاء متى لزم الأمر. تلا ذلك ما سُمّي “إعادة تموضع” للقوات الإسرائيلية، لا “انسحابًا”. الخط الذي ستقف عنده القوات لم يُعرض على أي خريطةوسبق ان تحدثنا عن عن خطورة الخرائط والتحديد عليها ، وكأن الهدف ليس ترسيم نهاية الوجود العسكري، بل منحه اسمًا جديدًا يسمح بعودته متى شاءت الجهة الضامنة. ثم جاء بند المعابر، لا بوصفه فتحًا كاملًا، بل “فتحًا مراقَبًا”، تُشرف فيه مصر على المعبر ميدانيًا بينما تُمسك واشنطن بحق الإذن، وتبقى إسرائيل واقفة عند الباب الخلفي تحت اسم “حق التدقيق”. لا أحد يملك منفردًا قرار المرور، وهذا وحده كافٍ لفهم أن المعبر لم يعد بوابة حدود بل بوابة شرعية.
تبادل الأسرى ظهر في البيانات كمسار إنساني، لكنه وُضع تحت إشراف أمريكي مباشر، ما يعني أن واشنطن استحوذت على أكثر الأزرار حساسية في الوعي الجمعي للطرفين. وتشكيل “لجنة متابعة” لم يُقدَّم كهيئة قانون دولي، بل كفريق تقييم، يعطي الحق في الترقية إلى المرحلة التالية من الصفقة أو إعادة الملف إلى نقطة الصفر. المنطق هنا ليس منطق محكمة، بل منطق عقدٍ تجاري يُدار على دفعات: من يلتزم يُكمل، ومن يتلكأ يُعلّق.
وفي آخر السطر، انزلقت جملة صغيرة: “بدء إجراءات تشكيل هيئة مدنية انتقالية لإدارة الشؤون اليومية”. جملة تُشبه بيانًا إداريًا عاديًا، لكنها تخفي أكبر تحول سياسي في غزة منذ عقود: لا إعلان بحل السلطة، ولا اعتراف بحماس، بل إنتاج كيان جديد بلا اسم واضح… ليصبح مع الوقت هو الواقع الشرعي الوحيد المقبول دوليًا. لا خروج صريح، ولا اعتراف صريح — فقط تركيب بنية رمادية تُبنى تدريجيًا حتى تعلو على البنى القديمة دون إعلان موتها.
هنا فقط… ينبغي التوقف.
وطرح السؤال الذي حاولت الوثيقة تجاوزه بالصمت:
هل هذا “اتفاق” أم “بداية عقد متعدد الطبقات”؟ هل نحن أمام معاهدة واحدة… أم أمام مشروع صفقة تُدار على مراحل، لكل مرحلة وثيقة جديدة ولقطة كاميرا جديدة وحساب قوة جديد؟ ومن المستفيد من إبقاء الاتفاق مُجزَّأ لا مغلقًا؟
الصحافة الدولية لم تنتظر النص الرسمي. بدأت تتحدث منذ اللحظة الأولى عن “نسخة موسعة من عشرين بندًا”، لا تظهر كلها في الورق المعلن، بل تتحرك في الخلفية كطبقة نوايا، يُمرَّر منها ما يناسب اللحظة ويُجمد ما قد يثير حساسية مبكرة. بمعنى أدق: ما وُقّع في شرم الشيخ ليس الخطة… بل الصفحة الأولى منها فقط. البقية تُترك للمراحل التالية — في كل مرحلة، تُعاد صياغة الواقع، ويُعاد تعريف البنود بما يناسب التوازن الجديد للقوة.. هكذا لا يُصنع السلام… بل تُدار السيطرة. الورقة قبل الرصاصة، والبند قبل الجندي، واللجنة قبل المعركة.