في خطوة وُصفت رسميًا بأنها “تجارية بحتة”، أقرت الحكومة الإسرائيلية صفقة تاريخية بقيمة 35 مليار دولار أمريكي لتصدير الغاز الطبيعي إلى مصر، تضمن إمدادات تصل إلى 130 مليار متر مكعب من حقل ليفياثان البحري حتى عام 2040.ab92d7 هذه الصفقة، التي أُعلنت في أغسطس الماضي وأكدتها وزارة الطاقة الإسرائيلية يوم الأربعاء، تأتي في وقت يعاني فيه الاقتصاد المصري من أزمة طاقة حادة، لكنها أثارت جدلاً واسعًا حول ما إذا كانت إنقاذًا مؤقتًا أم فخًا استراتيجيًا يهدد السيادة الوطنية. فبينما توفر الصفقة توفيرًا ماليًا يقدر بنحو 2 مليار دولار سنويًا من خلال سعر أقل من الغاز الطبيعي المسال (LNG) العالمي، إلا أنها تربط مصر بمورد واحد لمدة 15 عامًا، مما يثير تساؤلات عميقة حول الأمن القومي والتنويع في مصادر الطاقة.
جذور الأزمة: من الاكتفاء الذاتي إلى الاعتماد الخارجي
تعود جذور القصة إلى عام 2015، عندما أعلنت شركة إني الإيطالية عن اكتشاف حقل “ظهر” في شرق المتوسط، أكبر حقل غازي في البحر المتوسط باحتياطيات تصل إلى 850 مليار متر مكعب، مما أشعل آمالًا بأن تتحول مصر إلى مركز إقليمي للغاز.
في غضون ثلاث سنوات، حققت مصر الاكتفاء الذاتي من الغاز، وبدأت في تصديره إلى أوروبا عبر محطات الغاز المسال في إدكو ودمياط، محققةً إيرادات تصل إلى مليارات الدولارات. كانت الرؤية واضحة: مصر، التي كانت تعتمد على الاستيراد في العقود السابقة، ستصبح قوة طاقة إقليمية قادرة على تغطية احتياجاتها لـ23 عامًا قادمة.
لكن الواقع سرعان ما انقلب. بحلول عام 2022، انخفض الإنتاج المحلي إلى ما دون الاحتياجات الداخلية، مدفوعًا بسوء إدارة واضح: لم تُستثمر الأرباح في تطوير الحقول القديمة أو توسعة الإنتاج، بل صُرفت في مشاريع غير أولوية، مما أدى إلى تدهور طاقة الإنتاج بنسبة ملحوظة.
في صيف 2024، شهدت مصر انقطاعات كهرباء واسعة النطاق، أثرت على ملايين المواطنين والصناعات، وأجبرت الحكومة على اللجوء إلى استيراد الغاز لأول مرة منذ عقود.
وفي 2023، أصبح الاستيراد ضرورة عاجلة، معتمدةً بنسبة تصل إلى 72% على الغاز الإسرائيلي عبر خط أنابيب EMG.
هذا التحول لم يكن مصادفة اقتصادية فحسب، بل نتيجة فشل في التواصل بين وزارة البترول والشركات الدولية، وعدم وجود خطط طوارئ للانخفاض المتوقع في الإنتاج. كما رفضت الحكومة عروض استثمار من شركات أجنبية لتطوير الحقول القديمة، مفضلةً التركيز على الحقول الجديدة دون استراتيجية متكاملة. النتيجة؟ كارثة طاقة أجلتها الصفقات المؤقتة، لكنها عادت لتطارد البلاد في أزمات متتالية.
تفاصيل الصفقة: إغاثة قصيرة الأجل بتكلفة طويلة الأمد
أُبرمت الصفقة بين مشغلي حقل ليفياثان (بما في ذلك شركة شيفرون الأمريكية ونيوميد الإسرائيلية) وشركة بل أتكيف المصرية، لتزويد مصر بغاز أنبوبي بسعر 7.29 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية (BTU)، مقارنة بـ14-16 دولارًا للغاز المسال العالمي.
ستبدأ الإمدادات في 2026، مما يقلل من حاجة مصر لاستيراد LNG بقيمة تصل إلى 20 مليار دولار في 2025، ويغطي نحو 60% من احتياجاتها الإجمالية.
من الجانب الإسرائيلي، ستولد الصفقة إيرادات تصل إلى 18 مليار دولار، مما يجعلها أكبر اتفاق طاقة في تاريخ إسرائيل.
ومع ذلك، يصر المسؤولون المصريون على أنها “عملية تجارية خالصة”، دون أبعاد سياسية، كما أكدت وزارة البترول في بيان رسمي.
لكن الواقع يروي قصة أخرى. الصفقة ليست مجرد عقد بيع، بل ربط استراتيجي يعزز الاعتماد على خط أنابيب واحد، دون بدائل فورية في حالة تعطل.
وفي عالم الطاقة، حيث تُستخدم الموارد كأداة سياسية – كما فعلت روسيا مع أوروبا وأوكرانيا – يصبح هذا الاعتماد نقطة ضعف قاتلة.
الدرس المر من يونيو 2025: حرب إسرائيل-إيران تكشف الضعف
لم يكن التحذير نظريًا؛ فقد تجسد في يونيو 2025، عندما اندلعت حرب قصيرة الأمد بين إسرائيل وإيران استمرت 12 يومًا، أدت إلى إغلاق حقول الغاز الإسرائيلية جزئيًا.
في 15 يونيو، أوقفت إسرائيل تصدير الغاز إلى مصر فورًا، مما خفض الإمدادات اليومية بنحو 800 مليون قدم مكعب، وأجبر الحكومة المصرية على إغلاق مصانع الأسمدة بالكامل وقطع الغاز عن الصناعات الثقيلة.
شهدت الشبكة الكهربائية اضطرابات، مع زيادة استخدام الديزل كبديل، مما رفع التكاليف وأثر على الاقتصاد بنحو 500 مليون دولار في أسبوع واحد.
أعادت إسرائيل التصدير في 23 يونيو، ليس بسبب ضغط مصري مباشر، بل بقرار إسرائيلي داخلي، بعد أن أكدت أن الجيش لم يعد بحاجة إلى الإنتاج الكامل.
هذا الحدث لم يكن استثناء؛ فقد أغلقت إسرائيل الصمام مرات عدة خلال الأزمة، مما أحدث تقلبات في شبكة الطاقة المصرية وأثار مخاوف من كارثة اقتصادية أكبر. كما يشير خبراء في معهد الدراسات الاستراتيجية الدولية (IISS)، فإن مصر أصبحت “رهينة لتدفق الغاز الإسرائيلي” بنسبة 60%، مما يجعلها عرضة لأي توتر جيوسياسي في المنطقة.
الربط الاستراتيجي: فقدان السيادة وغياب التنويع
يمتد الخطر إلى ما بعد الاقتصاد. في الأدبيات الأكاديمية، يُعرف “الأمن القومي في الطاقة” بأنه ضمان الإمدادات دون رهان على قرارات خارجية، لكن هذه الصفقة تعكس العكس تمامًا.
بتزامنها مع عقود طويلة الأمد، تمنع الصفقة التنويع: أي مستثمر دولي آخر – سواء من النرويج أو قطر – سيجد مصر ملتزمة بإسرائيل، مما يخلق “تكلفة غرقية” (sunk cost) تضعف الموقف التفاوضي المصري في المستقبل.
مثال حي: أوروبا، التي عانت من قطع الغاز الروسي بعد حرب أوكرانيا، استثمرت اليوم مليارات في محطات LNG وبنية تحتية بديلة بقيادة بولندا، لتعلن استقلاليتها الطاقية.
تركيا، بدورها، خفضت اعتمادها على روسيا وإيران من 50% إلى أقل من 30% من خلال عقود مع الولايات المتحدة والغاز المحلي، محولةً الضغط السياسي إلى فرصة.
في مصر، غابت مثل هذه الخطط. محطات LNG في إدكو ودمياط غير كافية لتغطية 130 مليار متر مكعب، ولا توجد استراتيجية لتطوير القدرات المحلية بالتوازي مع الاستيراد. كما يقول محللون في “ذا نيو أراب”: “الاعتماد على إسرائيل يمنحها سيادة غير مباشرة على الاقتصاد المصري، حيث يمكن لقرار واحد إيقاف المصانع والخدمات والتصدير، بما في ذلك قناة السويس.”
التقارير الإسرائيلية نفسها تؤكد ذلك، مشيرة إلى أن الصفقة “تعزز النفوذ الإقليمي” أكثر من كونها صفقة تجارية.















