في لحظة تتقاطع فيها خيوط الاقتصاد العالمي بين مخاوف التضخم المتعثر وإشارات التباطؤ في سوق العمل، أعلن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (الفيدرالي) يوم الأربعاء الماضي، 10 ديسمبر 2025، عن خفض معدل الفائدة الفيدرالي بنسبة ربع نقطة مئوية (25 نقطة أساس)، ليصل إلى نطاق 3.5% إلى 3.75%. كان هذا الخفض الثالث المتتالي في عام 2025، يعكس تراكماً إجمالياً قدره 175 نقطة أساس منذ سبتمبر 2024، ويأتي كإجراء “تأميني” لمواجهة مخاطر الركود الاقتصادي دون السماح للضغوط التضخمية بالانتشار مرة أخرى.
لكن ما يجعل هذا القرار محورياً ليس حجمه المحدود فحسب، بل إشاراته الدقيقة إلى مسار أكثر تحفظاً في 2026، حيث يتوقع الـ”نقاط التوجيهية” (dot plot) خفضاً واحداً فقط في العام المقبل، متبوعاً بآخر في 2027، مع هدف طويل الأمد يقارب 3%. هذا التحول، الذي أثار انقساماً داخل اللجنة الاتحادية للسوق المفتوحة (FOMC) بنسبة 9-3، ليس مجرد تعديل أمريكي محلي؛ إنه يُعيد رسم خريطة السياسة النقدية العالمية، محولاً التوازن بين السيولة والحذر إلى معركة جيوسياسية اقتصادية تستمر طوال عام 2026.
لنبدأ بفهم السياق الأمريكي، الذي يشكل دائماً المحرك الرئيسي للدورة النقدية العالمية. وفقاً لتقرير الـFOMC، يتوقع أعضاء اللجنة نمو الناتج المحلي الإجمالي (GDP) بنسبة 2.3% بنهاية 2026، وهو تحديث صعودي عن التوقعات السابقة بنسبة 1.8% في سبتمبر، مدعوماً بانتعاش محتمل بعد إغلاق الحكومة لستة أسابيع واستثمارات هائلة في الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات.
.
في الوقت نفسه، يُتوقع استقرار معدل البطالة عند 4.4%، مع بطء في إضافة الوظائف وارتفاع طفيف في معدلات الإقالة، بينما ينخفض التضخم الأساسي (PCE) إلى 2.5%، مقارباً الهدف البالغ 2% لكنه لا يزال “مرتفعاً قليلاً” كما وصفته اللجنة. هذه التوقعات، التي تُظهر تبايناً واسعاً بين الأعضاء – حيث يرى ستة منهم عدم الحاجة إلى خفضات إضافية في 2026 – تعكس قلقاً متزايداً من “الكينزية الجديدة”، حيث يُعاد تشكيل الاقتصاد الأمريكي بسياسات الرئيس دونالد ترامب الجديدة، بما في ذلك الإنفاق الحكومي الضخم والحوافز الضريبية، والتي قد تعيد إشعال التضخم إذا لم يُدار التوازن بعناية. كما أن الخفض “الحذر” هذا، الذي رافقه رفض ثلاثة أعضاء (بما فيهم أوستن غولسبي وجيفري شميد) لأي تغيير، يُشير إلى أن الفيدرالي لم يعد يُقدم “تأميناً” بل ينتظر بيانات أكثر دقة، خاصة بعد الإغلاق الحكومي الذي أعاق الإحصاءات الرسمية.
يمتد هذا النهج التحفظي تداعياته مباشرة إلى السياسة النقدية العالمية، حيث يُشكل الفيدرالي “القطب الشمالي” الذي يجذب التدفقات المالية ويحدد مسار العملات والأصول. في أوروبا، على سبيل المثال، يواجه بنك الاحتياطي الأوروبي (ECB)
ضغوطاً متعارضة: من جهة، خفض الفيدرالي يُضعف الدولار نسبياً، مما يجعل اليورو أكثر جاذبية للمستثمرين الباحثين عن عوائد أعلى، ومن جهة أخرى، يُشجع على استمرار الخفضات الأوروبية لمواكبة التباطؤ الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي، الذي يُتوقع أن ينمو بنسبة 1.2% فقط في 2026. في اجتماعه الأخير في ديسمبر، أبقى الـECB على معدلاته عند 3.25%، لكنه أشار إلى خفضين إضافيين في 2026، مدفوعاً بتضخم يقارب 2% بالفعل. هذا التباين – خفض واحد أمريكي مقابل اثنين أوروبيين – قد يؤدي إلى “تدفقات رأس المال العكسية” نحو الأصول الأوروبية، كما حذرت تقارير من جي بي مورغان، مما يدعم اليورو ويخفض تكاليف الاقتراض للحكومات الأوروبية، لكنه يزيد من مخاطر الفقاعات في قطاعات مثل العقارات والتكنولوجيا الناشئة.
ومع ذلك، إذا أدى الإنفاق الأمريكي الترامبي إلى ارتفاع الدولار مرة أخرى، قد يُجبر الـECB على إبطاء خفضاته، مما يعيد الضغط التضخمي على اليورو زون، خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية في أوكرانيا وشرق المتوسط.
أما في المملكة المتحدة، فإن بنك إنجلترا (BoE) يجد نفسه في موقف مشابه، حيث خفض معدلاته بنسبة 0.75% في 2025، ويخطط لخفضين إضافيين في 2026 لمواجهة نمو يُتوقع عند 1.5% وبطالة تصل إلى 4.6%. قرار الفيدرالي يُعزز هذا المسار من خلال تقليل الضغط على الجنيه الإسترليني، مما يسمح للـBoE بـ”التنفس” في ظل الضعف الاقتصادي الناتج عن بريكست اللاحق. وفقاً لمحللين في رويترز، قد يؤدي هذا إلى “دورة خفضات متوازنة” بين لندن وواشنطن، تدعم الاستثمارات في الطاقة الخضراء والتكنولوجيا، لكنها تُعرض الجنيه لتقلبات إذا أدى التباين في السياسات إلى حرب عملات غير معلنة.
في اليابان، يواجه بنك اليابان (BoJ) تحدياً مختلفاً: مع معدلاته السلبية المستمرة (-0.1%)، يُشكل خفض الفيدرالي دافعاً لإنهاء سياسة “اليين الضعيف”، حيث قد يرتفع الين بنسبة 5-7% في 2026، مما يُعزز القدرة الشرائية اليابانية لكنه يضغط على الصادرات، ويُجبر الـBoJ على خفضات إضافية للحفاظ على التوازن. هذا التحول يُعيد إلى الأذهان “حرب العملات” لعام 2015، حيث أدى تباين الفيدرالي إلى اضطرابات في آسيا.
بالنسبة للأسواق الناشئة، تكمن التداعيات في مزيج من الفرص والمخاطر. في الصين، حيث يُتوقع نمو 4.8% في 2026، يُشجع خفض الفيدرالي على استمرار سياسة التحفيز النقدي من قبل بنك الشعب الصيني، مع خفضات محتملة في معدل الاحتياطي الإلزامي لدعم الاستثمار في البنية التحتية.
لكن الضعف النسبي للدولار قد يُعزز اليوان، مما يُقلل من القدرة التنافسية الصينية في التجارة العالمية، خاصة مع الرسوم الجمركية الترامبية الجديدة.
في الهند وبرازيل، حيث ارتفعت معدلات الفائدة إلى 6.5% و10.75% على التوالي لمكافحة التضخم، يُتيح القرار مساحة لخفضات تدريجية، مما يدعم نمواً يُتوقع عند 6.5% و2.2%، لكنه يزيد من حساسية هذه الاقتصادات لتقلبات الدولار، حيث قد تؤدي أي ارتفاع مفاجئ في الفائدة الأمريكية إلى هروب رؤوس الأموال وأزمات ديون.
تقارير من بنك إنجلترا تشير إلى أن السيولة العالمية ستزداد بنسبة 8% في 2026 بفضل الخفضات الجماعية، لكن مع مخاطر تضخم مستورد إذا أدى الإنفاق الأمريكي إلى ارتفاع أسعار الطاقة والسلع.
















