أثار اللقاء التاريخي بين الرئيس السوري أحمد الشرع، الملقب سابقًا بأبو محمد الجولاني، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض، جدلًا واسعًا حول تحولات مواقف الشرع السياسية. هذا اللقاء، الذي شهد إعلان ترامب رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، يمثل نقطة تحول في مسيرة الشرع، الذي انتقل من قيادة تنظيم مرتبط بالقاعدة ومناهض للولايات المتحدة إلى رئيس دولة يسعى للتعاون مع واشنطن. في هذا التقرير، نستعرض تناقضات مواقف أحمد الشرع بين عامي 2017 و2025، مع التركيز على انتقاداته السابقة لأمريكا وتحوله نحو التعاون معها.
الخلفية: من الجهاد إلى القيادة السياسية
ولد أحمد حسين الشرع عام 1982 في الرياض لأسرة سورية سنية من مرتفعات الجولان، وعاش طفولته في دمشق. انضم إلى تنظيم القاعدة في العراق قبل الغزو الأمريكي عام 2003، حيث شارك في التمرد ضد القوات الأمريكية.
أُلقي القبض عليه عام 2006 وسُجن في معتقل بوكا الأمريكي حتى عام 2011. بعد إطلاق سراحه، عاد إلى سوريا مع اندلاع الثورة ضد نظام بشار الأسد، وأسس جبهة النصرة عام 2012 بدعم من القاعدة.
في عام 2017، قاد الشرع دمج جبهة النصرة مع فصائل أخرى لتشكيل هيئة تحرير الشام (HTS)، التي أدارت حكومة الإنقاذ السورية في إدلب. خلال هذه الفترة، كانت مواقفه مناهضة بشدة للولايات المتحدة، التي صنفت جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام كمنظمات إرهابية.
في ديسمبر 2024، قادت هيئة تحرير الشام هجومًا خاطفًا أطاحت بنظام الأسد، وتولى الشرع قيادة الحكومة المؤقتة حتى تعيينه رئيسًا لسوريا في 29 يناير 2025 خلال مؤتمر نصر الثورة السورية. هذه التحولات السياسية رافقتها تغيرات جذرية في خطاب الشرع ومواقفه، خاصة تجاه أمريكا.
2017-2020: نقد أمريكا والدعوة للجهاد
خلال الفترة من 2017 إلى 2020، كان الشرع يتبنى خطابًا معاديًا للولايات المتحدة، متأثرًا بأيديولوجيا القاعدة. في مقابلة عام 2014، أشار الشرع إلى أن هدفه هو إقامة دولة إسلامية في سوريا تُحكم بالشريعة، مع رفض وجود الأقليات العلوية والشيعية والدرزية والمسيحية في الحكم.
هذا الخطاب تضمن انتقادات حادة لأمريكا كقوة “استعمارية” تدعم نظام الأسد وتُعيق الثورة السورية. في تلك الفترة، كانت الولايات المتحدة تشن غارات جوية ضد جبهة النصرة وتفرض عقوبات على قادتها، بما في ذلك مكافأة قدرها 10 ملايين دولار للقبض على الشرع.
في عام 2017، عندما شكل الشرع هيئة تحرير الشام، بدأ في محاولة إعادة صياغة صورته كقائد “ثوري” بدلاً من “جهادي عالمي”. ومع ذلك، استمرت انتقاداته لأمريكا، حيث اتهمها بدعم قوات سوريا الديمقراطية (SDF) ذات الأغلبية الكردية، التي اعتبرها تهديدًا لأهدافه. كما وصف الشرع التدخل الأمريكي في سوريا بأنه محاولة لتقسيم البلاد والحفاظ على نفوذ إيران وروسيا.
هذه التصريحات عكست موقفًا أيديولوجيًا متشددًا، حيث كان الشرع يرفع شعارات “الولاء والبراء”، كما أشار أحد المعلقين على منصة X، متهمًا الولايات المتحدة بالكفر والعداء للإسلام.
2021-2024: بداية التحول نحو البراغماتية
مع بداية عام 2021، بدأ الشرع في تبني نهج أكثر براغماتية، خاصة مع سيطرة هيئة تحرير الشام على إدلب وإدارتها لحكومة الإنقاذ السورية.
رغم استمرار التصنيف الأمريكي لهيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية، بدأ الشرع في تخفيف خطابه ضد الولايات المتحدة، مع التركيز على إظهار هيئته كقوة حاكمة “معتدلة”.
في إدلب، سمحت حكومة الإنقاذ بتسامح نسبي مع الأقليات، مثل السماح للنساء بالظهور دون حجاب وبيع الكحول، وهي خطوات أثارت جدلاً داخل التنظيم نفسه. هذه السياسات كانت محاولة لكسب شرعية دولية، خاصة مع الغرب.
في هذه الفترة، بدأ الشرع في إظهار انفتاح على التعاون مع قوى دولية، بما في ذلك الولايات المتحدة، لضمان استقرار إدلب.
على سبيل المثال، أبدى استعدادًا للتعاون في مكافحة تنظيم الدولة (داعش)، وهو هدف مشترك مع واشنطن. ومع ذلك، ظل خطابه العام حذرًا، حيث تجنب تأييد أمريكا صراحةً للحفاظ على دعم قاعدته الشعبية المتشددة. هذا التحول التدريجي أثار انتقادات من بعض المحللين، الذين اعتبروه “مناورة تكتيكية” لتعزيز سلطته بدلاً من تحول أيديولوجي حقيقي.
2025: التعاون المباشر مع أمريكا
في مايو 2025، وصل تحول الشرع إلى ذروته بلقائه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض، وهو أول لقاء بين رئيس سوري وأمريكي منذ عام 2000. خلال اللقاء، أعلن ترامب رفع جميع العقوبات الأمريكية عن سوريا، واصفًا الشرع بأنه “رجل قوي” لديه “فرصة حقيقية” لتحقيق الاستقرار. من جانبه، أكد الشرع التزامه بمنع عودة النفوذ الإيراني إلى سوريا والتعاون مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، بما في ذلك إدارة سجناء داعش.
في مقابلة مع قناة العربية، تحدث الشرع عن طموحاته لتطوير اقتصاد سوريا، مشيرًا إلى الحاجة إلى “خبراء يعرفون أصول البلاد ويستفيدون من تجارب العالم”.
كما أعرب عن رغبته في جذب استثمارات سعودية وأمريكية، بل وحتى التعاون مع إسرائيل من خلال الانضمام إلى اتفاقيات إبراهام، وهي خطوة أثارت جدلاً كبيرًا. هذه التصريحات تتناقض بشكل صارخ مع مواقفه السابقة، حيث كان يرفض التطبيع مع إسرائيل ويعتبر أمريكا عدوًا استراتيجيًا.
منشورات على منصة X أشارت إلى هذا التناقض، حيث كتب أحد المستخدمين: “أحمد الشرع، من كان يرفع شعارات ‘الولاء والبراء’، اليوم في حضرة ترامب… هل تذكّر شعاراته أم نسِيَها؟”، بينما علق آخر: “من قيادة القاعدة إلى مشروع ‘برج ترامب’، الشرع يسعى للتعاون مع أمريكا وإسرائيل”. هذه التعليقات تعكس حالة من الاستياء والتشكيك في دوافع الشرع.
تحليل التناقضات: دوافع التحول
يمكن تفسير تناقض مواقف الشرع من خلال عدة عوامل:
البراغماتية السياسية: بعد توليه السلطة في سوريا، واجه الشرع تحديات اقتصادية وسياسية هائلة، بما في ذلك إعادة إعمار بلد مدمر وتوحيد فصائل متباينة. التعاون مع أمريكا، التي تمتلك نفوذًا اقتصاديًا وعسكريًا، أصبح ضرورة لضمان الاستقرار وجذب الاستثمارات.
إعادة صياغة الصورة: منذ عام 2021، سعى الشرع إلى تحسين صورته دوليًا، متخليًا عن لقب “أبو محمد الجولاني” وتبني خطاب “الإصلاح والشمولية”. هذا التحول كان ضروريًا لكسب قبول الدول الغربية، خاصة بعد إزالة المكافأة الأمريكية عنه في ديسمبر 2024.
الضغوط الإقليمية: السعودية وتركيا، الحليفتان الرئيسيتان للشرع، لعبتا دورًا كبيرًا في دفع سوريا نحو التعاون مع أمريكا. اللقاء في الرياض، بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، يعكس هذا التوجه الإقليمي نحو تطبيع العلاقات مع واشنطن.
التغيرات في السياسة الأمريكية: عودة ترامب إلى السلطة عام 2025، وتبنيه نهجًا “معاملاتي” يركز على المصالح الاقتصادية بدلاً من الأيديولوجيا، سهّلا قبول الشرع كشريك محتمل، رغم ماضيه الجهادي.
الانتقادات والجدل
رغم هذا التحول، يواجه الشرع انتقادات حادة:
اتهامات بالنفاق: يرى البعض، كما في منشورات على X، أن الشرع تخلى عن مبادئه السابقة مقابل السلطة، مشيرين إلى تناقضه بين رفض التطبيع في الماضي وتودده لأمريكا وإسرائيل اليوم.
مخاوف من الأجندة الإسلامية: تقرير لمعهد أبحاث السياسة الخارجية (FPRI) أشار إلى أن تصريحات الشرع عن التسامح تتعارض مع تعيين شخصيات متشددة في الحكومة المؤقتة وتدريب المجندين على الشريعة، مما يثير مخاوف من عودة الأجندة الإسلامية.
عدم الشفافية: أشار باسم حداد، خبير الشؤون السورية في جامعة ستانفورد، إلى أن عملية انتقال السلطة إلى الشرع لم تكن ديمقراطية، وأن تعيين أنصار هيئة تحرير الشام في مناصب حكومية يثير تساؤلات حول نواياه.
تأثير التحول على سوريا والمنطقة
تحول مواقف الشرع له تداعيات كبيرة:
اقتصاديًا: رفع العقوبات الأمريكية وتعهدات الاستثمار السعودية (600 مليار دولار) والإماراتية (1.4 تريليون دولار) قد يعززان إعادة إعمار سوريا، لكن نجاح ذلك يعتمد على استقرار الحكومة.
سياسيًا: التعاون مع أمريكا وفتح قنوات مع إسرائيل قد يعزز مكانة الشرع دوليًا، لكنه يخاطر بفقدان دعم قاعدته الشعبية المتشددة.
أمنيًا: التزامه بمكافحة داعش ومنع نفوذ إيران يتماشى مع المصالح الأمريكية، لكنه قد يثير توترات مع فصائل متشددة داخل هيئة تحرير الشام، مما يهدد الاستقرار.
الخلاصة
تناقض مواقف أحمد الشرع بين 2017 و2025، من نقد أمريكا كقوة استعمارية إلى التعاون معها كشريك استراتيجي، يعكس مزيجًا من البراغماتية السياسية، الضغوط الإقليمية، والطموح لتثبيت السلطة. في حين كان الشرع يرفع شعارات جهادية ويتهم أمريكا بالعداء للثورة السورية، أصبح اليوم رئيسًا يسعى لجذب استثماراتها ودعمها. هذا التحول، رغم أنه أثار انتقادات واسعة واتهامات بالنفاق، قد يكون ضرورة لقيادة سوريا في مرحلة انتقالية مليئة بالتحديات. ومع ذلك، تبقى الأسئلة قائمة حول ما إذا كان هذا التحول تكتيكيًا أم يعكس تغييرًا أيديولوجيًا حقيقيًا، وكيف سيؤثر على استقرار سوريا وعلاقاتها الإقليمية في المستقبل.