تتجه الولايات المتحدة نحو أزمة اقتصادية غير مسبوقة، قد تُعيد إلى الأذهان ذكريات الكساد العظيم، مدفوعة بسياسات الرئيس دونالد ترامب التجارية المثيرة للجدل. فرض رسوم جمركية مرتفعة على المنتجات الصينية، وصلت إلى 145%، أشعل فتيل حرب تجارية مع الصين، تهدد بإفلاس الشركات الصغيرة الأمريكية، وتُفاقم معاناة الطبقات الفقيرة، وتُعرّض الاقتصاد الأمريكي لخطر التضخم والبطالة.
خلفية الأزمة: حرب تجارية تُربك الأسواق
بدأت الأزمة عندما فرض ترامب تعريفات جمركية مرتفعة على الواردات الصينية، بهدف حماية الصناعة الأمريكية. لكن هذه السياسة أدت إلى نتائج عكسية، حيث تسببت في اضطرابات كبيرة في سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار السلع، وفوضى في أسواق التجارة الإلكترونية. الشركات الأمريكية، التي كانت تعتمد على الواردات الصينية الرخيصة، واجهت صعوبات في تحمل التكاليف الجديدة، مما دفع العديد منها إلى إلغاء شحنات أو تحويلها إلى دول أخرى مثل فيتنام.
وفقًا لتقرير نشرته مجلة The Economist، انخفضت الحجوزات الجديدة للسفن القادمة من الصين إلى أمريكا بنسبة 45% خلال أسبوع واحد فقط، مع إلغاء أو تحويل 40% من الرحلات البحرية بين البلدين. هذه الأرقام تُظهر حجم الأزمة التي بدأت تلوح في الأفق، مع توقعات بتفاقم الوضع في الأشهر المقبلة.
تأثير الرسوم الجمركية على الشركات الصينية
الشركات الصينية الكبرى، مثل Shein وTemu، التي اعتمدت على أسعار منخفضة لجذب المستهلك الأمريكي، اضطرت إلى رفع أسعار منتجاتها بشكل كبير. تقرير من بلومبرج أشار إلى أن Shein رفعت أسعارها في أمريكا بنسبة تصل إلى 377%، بينما اضطر Temu إلى زيادات مماثلة. على سبيل المثال، منتج بسيط مثل فوطة مطبخ، كان سعره 1.28 دولار على Temu، أصبح الآن 6.10 دولار.
السبب الرئيسي لهذه الزيادات هو إلغاء ترامب لثغرة قانونية تُعرف بـ”De Minimis”، التي كانت تتيح للشركات الصينية إدخال شحنات بقيمة أقل من 800 دولار إلى أمريكا دون جمارك. هذه الثغرة شكّلت أساس نموذج الأعمال لشركات مثل Shein وTemu، مما سمح لها بتقديم أسعار تنافسية. لكن مع فرض رسوم جمركية بنسبة 145%، أصبحت هذه الشركات مضطرة لرفع الأسعار، مما قلّل من قدرتها التنافسية.
تأثير الأزمة على المستهلك الأمريكي
المستهلك الأمريكي، وخاصة الطبقات المتوسطة والفقيرة، هو المتضرر الأكبر من هذه السياسات. ارتفاع أسعار السلع الأساسية جعل من الصعب على الأسر ذات الدخل المحدود تلبية احتياجاتها اليومية. دراسة أجرتها جامعتا Yale وUCLA كشفت أن 48% من الشحنات الصينية كانت تُوجّه إلى المناطق الأكثر فقرًا في أمريكا، مما يعني أن الفقراء هم الأكثر تأثرًا بهذه الزيادات.
المتاجر الأمريكية الكبرى، مثل Walmart، التي كانت تُعتبر خيارًا مكلفًا بالنسبة للفقراء، أصبحت الآن الخيار الوحيد للكثيرين، رغم أسعارها المرتفعة. تقرير من معهد ITEP الاقتصادي حذّر من أن الرسوم الجمركية ستُكلف أفقر 20% من الأمريكيين 6.2% من دخلهم السنوي، مما يُفاقم التفاوت الاجتماعي ويُعرّض ملايين الأسر لخطر الفقر المدقع.
انهيار الشركات الصغيرة الأمريكية
الشركات الصغيرة الأمريكية، التي تعتمد على استيراد المنتجات الصينية، تواجه خطر الإفلاس. ريان بيترسون، الرئيس التنفيذي لشركة Flexport للشحن واللوجستيات، صرّح في بودكاست حديث أن 80% من هذه الشركات قد تواجه الإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف الاستيراد. المنتجات التي تستوردها هذه الشركات، مثل الأجهزة المنزلية غير الأساسية، أصبحت باهظة الثمن، مما دفع المستهلكين إلى التخلي عنها.
هذا التراجع في الطلب يُهدد بحدوث كساد اقتصادي، حيث تتوقف حركة البيع، وتنهار سلاسل التوريد، مما يؤدي إلى تسريح العمالة وإغلاق الشركات. النتيجة هي ارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين العاملين في القطاعات الصغيرة والمتوسطة.
رد فعل الصين: استراتيجية الاعتماد على الذات
في المقابل، تتبنى الصين استراتيجية ذكية لتخفيف تأثير الحرب التجارية. بدلاً من الاعتماد على السوق الأمريكي، بدأت الشركات الصينية الكبرى، مثل Alibaba وPinduoduo، في توجيه منتجاتها إلى السوق المحلي الصيني، الذي يضم أكثر من 1.4 مليار مستهلك. هذه الشركات أطلقت حملات ترويجية بمليارات الدولارات لتشجيع التجار على خفض الأسعار وبيع منتجاتهم داخل الصين.
الحكومة الصينية، من جانبها، تدعم هذه الجهود من خلال تعزيز سياسة “الاعتماد على الذات”، التي تهدف إلى تحصين الاقتصاد الصيني ضد العقوبات الأمريكية. شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل Tencent، تُشجّع على لعب دور اجتماعي لدعم الاقتصاد المحلي. المؤشرات الأولية تُظهر نجاح هذه الاستراتيجية، مما يعني أن الصين قد تتجاوز الأزمة بأقل الخسائر، بينما تتحمل أمريكا العبء الأكبر.
تراجع ترامب والهروب من الجمارك
في ظل تصاعد التوتر، ألمح ترامب في مؤتمر صحفي حديث إلى إمكانية التراجع عن بعض الرسوم الجمركية، خشية أن تؤدي الزيادات المستمرة في الأسعار إلى عجز المستهلكين عن الشراء. لكن هذا التراجع قد يأتي متأخرًا، حيث بدأت الأسواق الأمريكية تشهد حالة من الهلع، مع توقف الاستثمارات وتجميد التوظيف.
في الوقت نفسه، تلجأ بعض الشركات الأمريكية إلى حيل للتهرب من الجمارك. خلال معرض كانتون الدولي في الصين، اقتربت شركات أمريكية من شركات هندية لشراء المنتجات الصينية ونقلها عبر الهند، التي تخضع لرسوم جمركية أقل (10% فقط). هذه الاستراتيجيات تُظهر مدى اليأس الذي وصلت إليه الشركات الأمريكية.
مستقبل الاقتصاد الأمريكي: كارثة تلوح في الأفق
تشير المؤشرات إلى أن أمريكا على أعتاب أزمة اقتصادية تاريخية. التضخم المتصاعد، إفلاس الشركات الصغيرة، وارتفاع البطالة تهدد بتقويض استقرار أكبر اقتصاد في العالم. في الوقت نفسه، يتجه المستثمرون إلى الملاذات الآمنة مثل الذهب، بينما تشتري الصين كميات قياسية منه، مما يُعزز مخاوف من تراجع الثقة في الدولار.
السياسات التجارية لترامب، التي كانت تهدف إلى حماية الاقتصاد الأمريكي، قد تكون أضرت به أكثر مما أضرت بالصين. بينما تحاول الصين بناء سوق محلي قوي، تواجه أمريكا خطر التدهور الاقتصادي، مع عبء يقع بشكل رئيسي على كاهل الفقراء والشركات الصغيرة.
من الخاسر الأكبر؟
الحرب التجارية بين أمريكا والصين كشفت عن هشاشة الاقتصاد الأمريكي في مواجهة قرارات متهورة. في حين تُظهر الصين مرونة في إعادة توجيه اقتصادها، يدفع المستهلك الأمريكي والشركات الصغيرة ثمن سياسات ترامب.