في عالم الرمادي يصر مارك زوكربيرج على الألوان الداكنة ففي عالم نبض التكنولوجيا، تتلألأ أضواء الابتكار تحت وهج الشاشات اللامعة، ويبرز معها مارك زوكربيرج كشخصية غامضة في بساطتها المقصودة.
تخيل الرجل الذي بنى إمبراطورية “ميتا”، يقف أمام الكاميرات العالمية مرتدياً قميصاً رمادياً باهتاً أو جاكيتاً أسوداً قاتماً، كأنه شبح من عصر سابق يتحدى زخم الموضة المعاصرة.
ليس هذا الاختيار عشوائياً، بل هو استراتيجية مدروسة، تعكس فلسفة حياة تجمع بين الاقتصاد النفسي والطموح اللامحدود. فلماذا يميل زوكربيرغ إلى الاعتماد على الرمادي والأسود، هذين اللونين اللذين يوحيان بالحياد والغموض، بعيداً عن بريق الألوان الزاهية التي يتخذها الآخرون شعاراً لشخصياتهم؟ الإجابة تكمن في طبقات من الدوافع العملية، النفسية، والرمزية، تجعل من خزانة ملابسه ليس مجرد رفوف، بل خريطة لعقل الرجل الأكثر نفوذاً في عصر الذكاء الاصطناعي.
يعود جذر هذه البساطة إلى بدايات زوكربيرج كمؤسس لـ”فيسبوك” في عام 2004، حين كان الشاب البالغ من العمر 19 عاماً يعمل في غرفة نومه بجامعة هارفارد. منذ ذلك الحين، أصبح القميص الرمادي الداكن رفيقاً أبدياً، يتكرر في كل ظهور عام، من اجتماعات مجلس الإدارة إلى جلسات الكونجرس الأمريكي.
في مقابلة شهيرة عام 2014، أفصح زوكربيرج عن السبب الأساسي: “أريد تبسيط حياتي قدر الإمكان، لأقلل من عدد القرارات اليومية التي أتخذها بشأن ما آكله أو أرتديه، لأن لدي قرارات أكبر بكثير يجب أن أتخذها”.
هنا، يلتقي الرمادي والأسود بمفهوم “إرهاق الاختيار” (decision fatigue)، الذي درسَه علماء النفس مثل روي باوميستر، حيث يستهلك كل قرار بسيط جزءاً من الطاقة العقلية، مما يقلل من القدرة على التركيز في المهام الحرجة.
بالنسبة لزوكربيرج، الذي يدير شركة تضم ملايين المستخدمين وتُقدَّر قيمتها بتريليونات الدولارات، يصبح اختيار لون قميص ليس ترفاً، بل عائقاً يجب إزالته.
فالرمادي، بلونه المحايد الذي يذوب في الخلفية، يمنحه هذا التبسيط دون أن يلفت الانتباه، بينما الأسود يضيف لمسة من السلطة الهادئة، كأنه درع يحمي الابتكار من تشتت النظر.
لكن الدوافع لا تقتصر على الجانب العملي؛ إنها تتداخل مع رؤية نفسية أعمق، مستوحاة من أيقونات السلكون فالي.
يشبه زوكربيرج ستيف جوبز، الذي اعتمد القميص الأسود السليم كرمز للتركيز الروحي، مستلهماً فلسفة الزن البوذية التي تُمجد البساطة كوسيلة للتنوير.
في كلا الحالتين، يصبح الزي اليومي ليس مجرد قماش، بل بياناً عن رفض الاستهلاكية الفارغة في عالم يغرق في الإعلانات والموضة السريعة.
الرمادي، بلونه الذي يقع بين الأبيض والأسود، يعكس هذا التوازن: ليس أبيضاً لامعاً يرمز للنقاء المفرط، ولا أسوداً كالحاً يوحي بالغموض المطلق، بل مزيجاً يسمح لزوكربيرغ بالاندماج في الجماهير دون أن يفقد هيبته. هذا الاختيار يعزز صورته كـ”المهندس الشاب”، الذي يفضل الكود على الكتالوجات، ويحول مظهره إلى أداة تسويقية خفية لـ”ميتا”، حيث يُشَعَّر الجمهور بأن الابتكار لا يحتاج إلى زينة خارجية.
ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، خاصة بعد عام 2020، بدأ زوكربيرغ في إدخال لمسات خفيفة من التغيير، معتمداً على الجاكيتات السوداء الرياضية أو السترات الرمادية الواسعة، كما في إعلاناته عن مشاريع الواقع المعزز. هذا التطور لا ينفي الاعتماد الأساسي على الداكن، بل يعززه، إذ يظل اللون الرئيسي شاهداً على ثبات فلسفته وسط عاصفة التحديات التنظيمية والمنافسة مع “تيك توك”. في النهاية، يُعلِّمُنا زوكربيرغ درساً في فن الحياة الحديثة: في زمن يُغرَقُنا فيه الخيارات، قد يكون الرمادي والأسود ليس خياراً، بل ضرورة للبقاء.
فالرجل الذي يربط العالم ببعضه، يختار أن يظل غير مرئي في مظهره، ليبقى مرئياً في تأثيره. هكذا، يصبح خزانة ملابسه ليس سراً شخصياً، بل مرآة لعصرنا الرقمي، حيث تكمن القوة في الاختصار.