في لحظة فارقة من مشهد العدالة البريطانية، أصدر القضاء حكمًا بالسجن المؤبد على رايلاند هيدلي، رجل يبلغ من العمر 92 عامًا، لإدانته بارتكاب واحدة من أبشع الجرائم في تاريخ البلاد، اغتصاب وقتل أرملة مسنة تُدعى “لويزا دنّ” عام 1967، قبل أن تفلت يد القانون من عنقه لعقود طويلة ، لكن مع التقدم التكنولوجي، وعزيمة المحققين، تم إسدال الستار أخيرًا على أقدم “قضية باردة” تُغلق في تاريخ المملكة المتحدة ، جريمة اغتصاب وقتل وقعت في مدينة بريستول بجنوب غرب إنجلترا في صيف عام 1967، شغلت الرأي العام حينها بسبب بشاعتها وغموضها. السيدة لويزا دنّ، البالغة من العمر 75 عامًا، وُجدت مقتولة داخل منزلها، وقد خُنقت بعد أن تعرضت لاعتداء جنسي عنيف ، الضحية كانت تعيش بمفردها، ما جعل الجريمة أكثر غموضًا، خاصة مع غياب شهود عيان، وفشل التحقيقات آنذاك في تحديد الجاني أو حتى الوصول إلى مشتبه بهم حقيقيين.
بقيت القضية لعقود ضمن الملفات الجنائية غير المحسومة، والتي تُعرف باسم “القضايا الباردة”، وهي تلك التي توقفت فيها التحقيقات بسبب غياب الأدلة الكافية. ومع مرور الزمن، بدأت تفاصيل الجريمة تتلاشى من الذاكرة العامة، حتى كادت تُنسى تمامًا.
الحمض النووي.. حين يتكلم الصمت
في عام 2021، ومع التوسع في مراجعة القضايا القديمة المدونة في أرشيف الشرطة البريطانية، تولى فريق متخصص من شرطة “أفون وسومرست” ملف قضية مقتل لويزا دنّ. وكان التطور الحاسم هو التمكن من استخراج وتحليل عينة بيولوجية تم العثور عليها ضمن أدلة القضية القديمة، وهي عينة من الحمض النووي (DNA) لم يكن من الممكن فحصها وقت ارتكاب الجريمة بسبب محدودية العلم آنذاك.
بفضل قواعد البيانات الحديثة وتكنولوجيا الربط الجيني، تم التعرف على تطابق واضح بين العينة وسجل جيني يعود إلى رايلاند هيدلي، الذي أصبح الآن في الثانية والتسعين من عمره، لكنه حين وقت الحريمة كان في عنفوان حيوية العمر ، 34 عامًا .
الربط الجيني كان بمثابة المفتاح الذهبي الذي فتح باب الحقيقة، وسمح للشرطة بإعادة بناء الوقائع، واستدعاء المتهم، ومواجهته بأدلة لم يكن يتخيل أنها ستطارده بعد أكثر من نصف قرن.
رجل مسن في قفص الاتهام.. والماضي لا يرحم
رغم حالته الصحية المتدهورة وتقدمه الشديد في العمر، أُلقي القبض على هيدلي، وتمت محاكمته أمام هيئة محلفين في محكمة “بريستول كراون”. المتهم أصر على الإنكار، وادعى عدم معرفته بالضحية، إلا أن النيابة العامة عرضت تقريرًا مفصلًا عن الأدلة البيولوجية، إلى جانب تحليل للسلوك الإجرامي المتسق مع ظروف الواقعة.
القاضي ديريك سويتينغ، الذي ترأس الجلسات، أكد أن الأدلة قاطعة، وأن الجريمة تنم عن استغلال بشع لامرأة مسنة وضعيفة كانت تعيش بمفردها. وأثناء النطق بالحكم، قال القاضي للمتهم: “لن تُطلق سراحك أبدًا… ستموت في السجن. لقد اقتحمت منزل ضحيتك، واغتصبتها، وتسببت في وفاتها. تصرفت بوحشية، وأظهرت استهتارًا تامًا بالحياة والكرامة الإنسانية”.
ورغم عدم وجود نية صريحة للقتل، حسب تقدير المحكمة، فإن الاعتداء العنيف أدى إلى وفاة الضحية، مما جعل الجريمة بمثابة قتل من الدرجة الثانية، لكنها ارتُكبت في ظروف مشددة، ما استوجب الحكم بالسجن المؤبد.
ردود الفعل: عدالة تأخرت لكنها لم تغب
الحكم لاقى ترحيبًا واسعًا من قبل الشرطة والمجتمع المحلي، الذين رأوا فيه انتصارًا للعدالة، حتى وإن جاء متأخرًا. وقال متحدث باسم شرطة “أفون وسومرست”: “رغم مرور ما يقرب من 60 عامًا، لم ننس لويزا دنّ. العدالة لا تسقط بالتقادم، والتكنولوجيا الحديثة ساعدتنا، لكن العزيمة والإصرار هما ما قادانا لهذه اللحظة”.
في المقابل، عبّر بعض الحقوقيين عن قلقهم من كون آلاف القضايا المماثلة ما تزال تنتظر العدالة، داعين الحكومة لتخصيص مزيد من الموارد لمراجعة الملفات الباردة، واستخدام التكنولوجيا الحديثة لتحليل الأدلة الجنائية القديمة.
قضية تسطر فصلًا جديدًا في تاريخ العدالة
تعتبر هذه القضية بمثابة تحول كبير في ملف القضايا الجنائية في بريطانيا، حيث تمثل أول مرة يُدان فيها شخص مسن بجريمة تعود إلى ستينيات القرن الماضي، استنادًا بالكامل إلى دليل الحمض النووي. كما أنها تعكس تطور العدالة من أدوات تقليدية كانت تقف عاجزة، إلى منظومة حديثة تتكامل فيها العلوم مع القانون.
وتقول تقارير بريطانية إن الشرطة بدأت بالفعل في مراجعة ملفات مماثلة بالتعاون مع معامل الطب الشرعي، تمهيدًا لإعادة فتح عدد من الجرائم التي فشل النظام القضائي في حلها قبل عقود، أملًا في تحقيق العدالة وإنصاف الضحايا.
بين المجرم والضحية.. كلمة الختام للقانون
قد تكون لويزا دنّ قد فارقت الحياة منذ زمن بعيد، لكن الحكم الذي صدر هذا الأسبوع يعيد لها حقها ولو رمزيًا، ويؤكد أن القانون لا ينسى، وأن الجريمة مهما طال عليها الزمن، فهي لا تختفي.
في قفص الاتهام جلس رجل عجوز يحمل ماضيًا ثقيلًا، وفي ذاكرة العدالة تم تسجيل نهاية فصل طويل من الغموض، لتبقى الحقيقة دائمًا، حتى لو جاءت متأخرة، أقوى من النسيان.