في قلب العاصمة المصرية، عادت ألسنة اللهب لتخترق سماء القاهرة مجددًا من مبنى سنترال رمسيس، بعد أيام فقط من الحريق المدمر الذي أودى بحياة أربعة موظفين وأصاب العشرات. واقعة أثارت القلق من جديد، وفتحت الباب أمام تساؤلات مشروعة حول أسباب تكرار اندلاع النيران في المبنى ذاته، رغم الإجراءات التي يفترض أنها اتخذت للسيطرة على الحريق الأول وضمان عدم تجدده ، ففي مساء يوم الخميس، تلقت أجهزة الحماية المدنية بلاغًا جديدًا يُفيد بتصاعد دخان من داخل المبنى المحترق سابقًا، مما استدعى تحركًا سريعًا من فرق الإطفاء التي هرعت للموقع وباشرت محاصرة النيران للحد من انتشارها، لا سيما في الطوابق العليا.
وأفادت مصادر أمنية بأن الحريق الجديد كان محدودًا نسبيًا وتمت السيطرة عليه دون تسجيل إصابات جديدة، غير أن مجرد تجدده طرح علامات استفهام عديدة.
حادث لم يُطوَ بعد
الحريق الأول الذي شب قبل أيام في سنترال رمسيس كان كارثيًا بكل المقاييس، حيث خلف ضحايا ومصابين، وألحق أضرارًا بشبكة الاتصالات والإنترنت على مستوى القاهرة الكبرى، مما أثّر على حياة الملايين بشكل مباشر. وبعد الحادث، أعلنت النيابة العامة المصرية عن فتح تحقيق موسع لكشف ملابساته، ومعرفة إذا ما كانت هناك شبهات جنائية أو إهمال تسبب في اندلاع النيران وانتشارها بهذه الصورة المهولة.
وفيما لا تزال التحقيقات الرسمية جارية، يأتي الحريق الجديد ليضيف تعقيدًا إلى المشهد، ويثير الشكوك حول كفاءة عمليات التبريد والتأمين التي تمت بعد الحادث الأول، ومدى جاهزية المبنى فنيًا للتعامل مع مثل هذه الكوارث، لا سيما أنه يُعد أحد أقدم السنترالات الحيوية بالقاهرة.
بين الفرضيات والتقصير
رغم أن السلطات وصفت الحريق الثاني بأنه “محدود”، إلا أن التجدد السريع للألسنة النارية يشير إلى احتمالية وجود بؤر مشتعلة لم تُعالَج بشكل كامل منذ الحريق الأول. وهو أمر يعكس إما قصورًا في أعمال التبريد والمتابعة الفنية، أو خللاً هيكليًا داخل المبنى يُسهّل اشتعال النيران مجددًا عند أقل تماس حراري.
في مثل هذه الحالات، لا يمكن إغفال فرضية الإهمال الإداري أو الفني. فوجود أجهزة إلكترونية غير مفصولة عن الكهرباء، أو ترك كابلات محترقة دون إزالة كاملة، قد يسهم في اندلاع النيران مجددًا. إلى جانب ذلك، فإن بقاء رائحة الدخان في المنطقة لأيام بعد الحادث الأول كان مؤشرًا على أن ألسنة اللهب ربما لم تنطفئ بالكامل، أو أن التبريد لم يصل إلى الأعماق الكافية داخل المبنى.
الاتصالات والأمن القومي
من جهة أخرى، يُعد سنترال رمسيس من أبرز المرافق السيادية في منظومة الاتصالات المصرية، ما يجعل أي ضرر يلحق به ذو تأثير مباشر على شبكات الهاتف المحمول، وخدمات الإنترنت، وخطوط الطوارئ الحكومية. الحريق الأول بالفعل تسبب في تعطل واسع النطاق في بعض الشبكات، وهو ما أعاد إلى الأذهان أهمية مراجعة معايير الأمان والسلامة في هذه المنشآت الحيوية.
الجهات المعنية مطالَبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، بإجراء تقييم شامل لجميع مكونات البنية التحتية الخاصة بالمبنى، بما يشمل شبكات الكهرباء، وأنظمة مكافحة الحريق، والتوصيلات الداخلية، ومدى مطابقتها لمواصفات الأمان الدولية. فسلامة مثل هذه المباني لا يجب أن تكون محل تجريب أو تساهل.
الضحايا لا يُنسَون
وسط الحديث عن التحقيقات والأسباب الفنية، لا يجب أن يُنسى أن هناك أربع أسر مصرية دفعت ثمن الإهمال بحياة أبنائها. فالموظفون الذين لقوا حتفهم داخل المبنى خلال الحريق الأول، كانوا يؤدون مهامهم اليومية دون أن يخطر ببالهم أن مكان عملهم سيتحول إلى مصيدة نيران. ولذا فإن مسؤولية الدولة لا تتوقف عند محاصرة الحريق أو ترميم الجدران، بل تمتد إلى ضمان محاسبة كل من يثبت تورطه في التقصير، وتوفير أقصى درجات الأمان للعاملين مستقبلًا.
أسئلة تنتظر الإجابة
ويبقى السؤال الأبرز: لماذا تجددت النيران؟ هل كان الحريق الأول مجرد بداية لمشكلة بنيوية أعمق داخل سنترال رمسيس؟ هل هناك إهمال في عمليات الصيانة؟ أم أن الأمور أعقد مما تبدو عليه؟
حتى الآن، لم تصدر النيابة العامة بيانًا جديدًا يوضح ما إذا كان الحريق الثاني مرتبطًا بالأول، أو ما إذا كان ناتجًا عن فعل متعمد أو حادث عرضي. ومن المؤكد أن الأيام القادمة ستكشف الكثير، لكن المؤكد أيضًا أن مثل هذه الحوادث لا يجب أن تمر دون حساب أو مراجعة جذرية.
في انتظار الحقيقة
الجميع اليوم بانتظار كلمة الحسم من التحقيقات الرسمية، لأن سلامة المنشآت الحيوية ليست ترفًا ولا خيارًا، بل هي جزء أصيل من أمن الدولة. وعلى الجهات المعنية أن تثبت للرأي العام أن أرواح المواطنين لا تُدار بمنطق رد الفعل، بل بمنهج استباقي يضمن الوقاية قبل أن تقع الكارثة.
ويبقى الأمل معقودًا على أن تكون هذه الحادثة بكل آلامها بداية حقيقية لمراجعة شاملة لمنظومة الأمان في منشآت الدولة، حتى لا نجد أنفسنا نطرح السؤال ذاته بعد شهور: لماذا اندلع الحريق مجددًا؟